ورحل البدر بعد ان خلده شعره في عقل الزمان وقلبه ، رحل أمير الكلام وبدر الشعر ومهندس الكلمات رحل ليُسدّد الى حلوقنا غصةً مُرّة واختناقاً أليماً ومفجعاً وكأن الكرة الارضية قد سقطت بكامل محيطها في حنجرتك وانت ذاهل عن كل شيء يدفعك أمل باهت لتكذيب الخبر حتى اذا أمتلء سمع السمان بصحة الفاجعة ، مدّ الصمتُ ثوبه الشفيف على لغة الكلام .

رحل البدر الشاعر الذي جعل للمفردة الواحدة فضاءً واسعاً لم نعهده وشذّب فينا عاطفة الحب والغى المسافة بين القرب والبعد وشكى الهجر مرات واستعذبه مرات واستعدنا في فضاءات نشوتنا أحلامنا ، لا شاعر سوى البدر وظّف فينا وظيفة الشعر الكبرى لنستعيد مواقف أحلامنا فكما يقول ( غاستون باشلار ) ” إن وظيفة الشعر الكبرى ، هي أن يجعلنا نستعيد مواقف احلامنا “.

شكّل البدرُ رؤيتنا الفنية وذائقتنا الادبية من لغته العليا ومدرسته الشعرية المختلفة وأعاد تعريف قيمة الزمان بادراك العلاقة بينه والمكان من خلال شحنهما دلالياً وفنياً وعبر خياله وحسه المفعم برؤية مغايرة وبناءه الفني الخاص للقصيدة التي يضفي عليها من مشاعره ما تحمله من تداعيات وجدانية مكثّفة بالدلالات والايماءات .

رحل البدر الذي حضر الوطن فيه وأختلط بدمه و عزف فيه نبضه فانبت فيه من الكلام اعتزازا ” بجدار من طين وحصير ” وحتى ” فوق هام السحب وان كنتي ثرى ، فوق عالي الشهب يا اغلى ثرى . . ، ” هذه الكلمات التي غدت نشيدا وطنياً يملؤ سمع الزمان والمكان والافئدة وكلما وجدت نفسك مابين طينك والسحاب تُفاخِرُ بوطن .

يقول البدر بعيداً عن التقريرية المعتادة
” أنا من هـالارض اللي مال عيالها غيرها أرض . . عاشقٍ هـالرمل . . من خلقني الله لين أموت . . عاشقٍ جرد الروابي والفيافي والخبوت . . عاشقٍ طين البيوت وفتلة خيوط الوبر …. “”

كل هذا الحضور الشعري الو جداني الجميل والواسع والممتد في تقنية المكان والزمان والوطن لدى البدر جعل منه شاعراً وطنياً لا يشبهه أحد ، وفارساً خلّد الزمانُ كلماته سيوفاً في صدور أعداء الوطن وقذىً في عيون الحاسدين .

رحل البدر شاعر القلوب والاحاسيس المرهفة الذي غيّر بكلماته وفضاءات وجدانه في تصويره المُكثَّف للعواطف سلالم الموسيقى وأخترع للمغنين من الدانات اشجاها وعزف الملحنون على أوتار قلوبنا من كلماته التي انغرست في وجداننا وشكّلت ذائقتنا اللفظية والموسيقية وعلّمت جيلاً كاملاً كيف يُحِبّ : ( لاتردين الرسائل ، ايش اسوي بالورق ) و ( ابعتذر عن كل شي الا الهوى مال الهوى عندي عذر ) و ( جمرة غضى، بردان أنا تكفى أبى أحترق بدفى لعيونك التحنان في عيونك المنفى … ) و ( وين أحب الليله وين ) و ( ليلة لوباقي ليلة بعمري ابيها الليله ).

البدر الذي علمنا الحب وأن الكرامة فوق الحب ، البدر الذي عزف على ضلوعنا وشدّ أوتار قلوبنا حين حمّل افواه المطربين ونوتات الملحنين شجنه وشكواه وفرحه ونجواه وأسكب من مآقينا الدموع مرةً حزناً ومرةً فرحاً ومرةً ومرةً حزناً و ذهولاً على فقده .

ورحل البدر الشاعر الفيلسوف عميق التجربه والكلمة الذي وظّف المفردات بغير المعاني المعتادة وادهشنا بمعانٍ غير مألوفة لمفرداتٍ مألوفة.

الفراق : ” يقولون الذي كاره ، يلاقي للفراق أسباب . . . حبيبي والوداع نعاس . . نجم . . والجفن صاحي . . وأحلام الرماد . . ولفتة تملي الدروب غياب ..
مفارق !؟ والذي يخليك . .
لحظة بطفي مصباحي . .
تعرّى الدمع . . ألبِّسه الظلام ثياب .

والغياب : ” لوتغيبي ولو رحل وجهك حبيبي . . في غيابي عنك أشوفك . .
وفي عذابي منك أشوفك ،،
يا سيّدي ليه هـالتعب . .
ليه المساء يشرب من أحضان الغريب . .
ليه انت باحضاني تغيب ”

الشوق : وأقول أحبك ، والله اني من الشوق ألقا طيوفك في جميع المفارق ،،
كل مادعاني الشوق للقلب الاول
ألقى مكان القلب في الصدر تنهيد ،،
مشتاق . . ودي أصافحك
وعيّت بدي لامدها
الليل : الليل ماهو الظلام وبس . .
ولا القمر . . ولا النجوم . .
الليل هو هذا البحر . .
أنا أحس أن البحر أفلاك
والليل بحر
وأنت وأنا يا صاحبي اسماك . .
مانقص هـاليل بعدك الا قمرا
وما فقدت من النهار الا شعاع الشمس بكرا .. ،،

اثبت البدر بكفاءة مقولة ( سيمو نيدس )
( الرسم شعر صامت ، والشعر تصوير ناطق ) فكم ترك لنا البدر من قصائد تُعدّ لوحات فنية تستحق احتفاءً عالمياً من المعنيين بالادب ومنتجات الإنسان الشعورية واللفظية اهتماماً ودراسة تليق بمضامينها الفنية اراها مهمة كاهمية لوحات الموناليزا ، والعشاء الاخير ليوناردوا دافنشي مثلاً ، وغيرها من اللوحات العالمية ذائعة الصيت ، التي أُشبِعت تأملاً ودراسة.

ورحل البدر الشاعر و الانسان والبدر الامير المختلف في كل شيء الذي عاش وحيد نسجه ، رحل بكل جماله وثراءه وفلسفته الخاصة للحياة والناس والاشياء ، رحل بعد أن أفنى عمره في تمجيد وطنه ونال أسمى التقدير من مليكه وقيادته وأبناء وطنه .

رحل البدر وترك إرثاً عظيماً : وطنياً وانسانياً وفنياً وابداعياً ومدرسة في الشعر مختلفه ، وترك وطناً امانة في اعناقنا
إن ما تركه البدر من شعر مغنى او مُلقى في الامسيات الشعرية او المودع في الدوواين لحقيق به أن يكون محل عناية الباحثين والاكاديميين والمؤسسات العلمية والادبية المعنية، لِتُضاء منه مشاعل النور وطنياً وأدبياً وفنيّاً وحسياً . . ،،

رحم الله البدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز الرمز الإنساني الوطني العظيم وأسكنه فسيح جناته .