كانَ الشيخُ عبد الوهَّاب محمد صالح شيخ -رحمه الله- نموذجًا وطرازًا فريدًا من رجَال العَمَل الخيري بهذا البلد المعطَاء، وقد عرفتُه -رحمه الله- لأكثر من عشرين عامًا؛ سخيًّا جوادًا كريم اليدِ نديَّ الروحِ، قريبا من أهل الحَاجة والعَوزِ، سباقًا لمشاريع النَّفع العَام الخَيري.

وأكثر ما لَفَت نظري في هذه السِّيرة العَطرة المعطَاءة، ذلك الفِقه الحاضر والبصيرة الرَّصينة في التَّعاطي مع قَضَايا العَمَل الخيري والتَّطوعي؛ فقد كان حريصًا على التنوُّع والشُّمول في البذل في وجو البر والإحسان، ولا أُبالغ عندما أقول: إني لا أعرفُ عملَ خير ومصرف إحسان إلا وللشيخ عبد الوهاب -رحمه الله- يدٌ ضاربةٌ بأوفر سهمٍ ونصيب، فلم يثنهِ الاهتمامُ بالأوقَاف الدَّائمة وجمعيات البر العامَّة عن أن يَفتح بابه ويُرخي يدَه للحاجات الخاصَّة من أهل العَوَز أو المرَض أو المَدينين.

وكان من حُسن فقهه -رحمه الله- في عَمَل الخير، ترتيبُ الأولويات وتقديمُ مصارف البر المتعدِّية، والتي يعمَّ نفعُها ويعظم وقعُها ويطيب أثرُها؛ مِن الإسهام في بناء المسَاجد وعمارتها، والصَّرف على مَغَاسل الموتى الخيريَّة وإكرام مَن أفضَوا إلى رحمة الله، ووضع السِّقايات ودعم جمعيات البِّر المنتشرة في هذه البلاد المباركة.

وقد ألفيتُه -رحمه الله- على مُستوى العَلاقة الخاصَّة؛ رجلًا عظيمَ التعلُّق بربِّه، قويَّ الإيمانِ بعطائِه، لا ينقطعُ عن الصُّفوف الأُولى في المساجد، ولا يفترُ لسانُه من التَّذكير بالله والتَّبشير بفضله، متردِّدا ما بين حرم مكَّة والمدينة، ومواظبًا على المجاورةِ فيهما.

وقد كانت بيني وبينه زياراتٌ في العشر الأَواخر من رمضان والعشر الأُولى من ذي الحجة؛ كم انتفعتُ بحديثه ووصايَاه، وحسن تدبُّره لعظاتِ القرآن وبشائره؛ لقد كان -رحمه الله- مثالًا بليغا على الشخصيَّة المؤمنة الصَّادقة، التي جَمَعَ الله لها بين طهارة النَّفس وسخَاء اليد وطيب المعشَر وكريم الأثَر.

واليومَ أرثيه رحمه الله، وقد أفضى إلى رحمة ربِّه في يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان لعام 1445هـ، ودُفن ليلة السابع والعشرين في مقبرة بقيع الغرقد بالمدينة المنوَّرة؛ فخالص التَّعازي لأسرته الكريمة ولمحبيه، وصادق الدُّعاء له بالرَّحمة الواسعة وجنةٍ عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين؛ وهذه مرثيةٌ نظمتُها في هذا الحَدَث:

نبأٌ تحدَّر من سحابٍ مُرعد

سَالت لأبرقه عيونُ الأدمعِ

 

صدَّقتُ قولَ محدِّثي لما حَكَى

وددتُّ أني حينها لم أسمعِ

 

نجمٌ هوى حتى استقرَّ بقبره

وغشا السماءَ سوادُ ليل مُفزعِ

 

عطرٌ ذَوَى حتى تلاشى عَرْفُه

بأريجه طابت سُفُوح المهْيَعِ

 

عبدٌ لربٍّ واهبٍ متفضلٍ

شيخٌ يحوز قِلَاد مجد أروعِ

 

ترك الحياةَ فأشهبتْ أغصانُها

وَفَنَى النَّدا في طِوال الأفرعِ

 

يمناهُ قد جَادت بكل كَريمة

وبها تطيب جروحُ مرءٍ مُضْجَعِ

 

يُعطي ويَسبق بالعطاء تودُّدًا

تغشاهُ ريحٌ في دويٍّ مُجْمِعِ

 

في كلِّ وادٍ قد أناخَ رحالَه

برٌّ وإحسانٌ وتفريجُ أوجعِ

 

وبنيانُ صرحٍ للصَّلاة وللهُدى

ذكرٌ وقرآنٌ بجوفِ الأضلُعِ

 

هذا وسقياهُ لماءٍ سَاكبٍ

بلَّ نداهُ ثغرَ ذاك الأجوعِ

 

هذا ولا أُحصي محاسنَ بذلِهِ

كالشَّمس قد حلَّت بوقت المطلعِ

 

عشرون عامًا قد شرفتُ بقربهِ

واليوم تخلو منه خُضْرُ المربعِ

 

عهدٌ مَضَى في صدق حُبٍّ عامرٍ

يا طِيب ذاك العَهْد صفوَ المشرعِ

 

أرثي عيونًا قد حُرمن لقاءَكم

أرثي فؤادًا من حرِّ بينٍ مُجْزِعِ

 

لكنَّ ظنِّي في إله الكون أنْ

يغشاك سعدٌ في ظِلالٍ أَفيعِ.