قرع ينبوع صرخته المسافرة عبر مرفأ دهره قبل أن يبتعد عن مغبة صداه وقد ارتدى رداء فجره الشحيب حينما تأمل بحنين وهو في أحشاء ظلمته الحالكة ماقد يفوح من رائحة العطش ذلك السراب الباهت الغريب الذي يقوده إلى منحنيات أضواء جافة لاتعرف غير الوهم وصرير الذعر المرير.

فقد أطرق برأسه ولم يعبأ بمرآة زمنه التي كان يُجاورها وأبحر وهو في مَزِيَّة هذيان نحو الغيب تارةً هنا وتارةً هناك.

وضع الزمن أصابعه على طليعته الجادة المُعتقة فأخذت أعراض الخوف تبدو على محياه ودلفت به نحو مدينة الينابيع السحيقة تلك المدينة الهامسة بنرجسية ألوانها وتوتر مزاجها والثكلى بخصل البعد ومجاديف الزوال…

جاءه صوتٌ من أعماق الماضي التليد صداه معروف ولحنه مألوف وفكرته مُبهمه … أخذ يبحث في أغوار نفسه عن تلك السريرة التائهة علَّها تنير وجدانه وتبعده عن مالا نهاية له ليتشبث بها ويتسلق عليها حائط الوحدة وضمور الكآبه… ظل طوال مسافته الحالمه أسير نفسه فتولد لديه طموح الإنطواء وأخذه بعيداً عن عالم المرئيات…

أخذ ينظر مرة أخرى إلى المرآة النائمة أمامه وفجأة وجد نفسه يشدها إليه بريعان الرجاء وأخذ يُقبِّل هامته الصامتة من خلالها وبدأت شرفات العيون في الهطول على الوجنتين الشاحبتين العاريتين اللتين كساهما الزمن إنغضاضه وجرَّدهُما من تورد التفاح واحمرار الأفق …

قد تكون هذه اللحظة أقسى لحظات عمره لأنها لحظة انصهار في انتظار مافي الغيب وتيقظ الضمير ولكن هيهات ينفع التحسر والنفس كظَّة بشتى ألوان الألم وفي سراديب نفسه يفتقد التوازن في الألحان حيث أصبحت بلا طعم والكلمات ميتة والفكرة مازالت مغمورة …

لقد غاص في حقيقة نفسه وأبحر وجدانه حتى تعدى مايرغبه فباءت مثابرته بالنَّكسة فبدل أن يستل منها اللؤلؤة السوداء انتزع عدة شُعبٍ مُرجانية باهتة اللون ليس لها قيمة…

لقد بقي لنفسه ولم يعبأ بالآخرين… أخذ الأنا شعاراً متشبعاً به فبدأ مُترجلاً ثم مهرولاً ثم منطلقاً عبر منحدرات الزمن وأودية الحياة اللا نهائية… لقد أنهكته متاعب الرحلة فتصاعد لُهاثه وأصيب بدوار الأرض فأخذت خطاه في القصور فرحَّب بصخرةٍ على مقربة من نهاية المدى وباشرها بساطاً وثيراً له والتفت حيث كانت تسير أقدامه وبدأ ينظر إلى خطواته التي عفَّى عليها الزمن وإلى طريقه المُتَّشِح بظلمة الغربان ووحشة الضفادع فهرعت حينذاك منه قهقهات الهباء على مافات فأبحر إلى المجهول عبر مقصلة الأنين.

وفجأة بدأت مسالك جسمه المُنهك في الذبول فسقطت مرآة الزمن من بين يديه لتغيب بلوراتها كالشعاع العابر والضئيل حيث رأى نفسه على حقيقتها حائرة ضريرة ظامئة تبحث دون هدى عن الظلال في هجير الرمال فحاول عبثاً أن يجمع أجزائها .

ولكن كيف يجمعها وهي منتحرة في غياهب التعب الدافىء النابض بالدوار المُرهق؟ والبطانة مازالت مُلتبسة تبدو وكأنها جزءاً من عالم الذهول فتعاظمت عليها مراحل الظمأ الصامت في حظائر الأشباح ولكن هيهات ينفع الوخز وخريف النفس تمتد خاصرته بشتى أنواع الأسى إلى مالا حد له …

تمتد إلى الوراء لتسأل بلهفة مُرتعشة و غفلة غائمة عن ماتبقى من شذى الزهر وهو يترنح مابين الشقاء في عيون السفر وبين الموت وهو يعبر من نافذة الضجر وهو يعبر مابين زفير كفنٍ باكي وصيرورة قدر وهو يعبر وصدى نبضه مابين قبرٍدامس وشهيق حجر !!!