ذات مرة ارتكبتُ مخالفة بالعمل، فبلغ ذلك قائدي المباشر فأزبد وأرعد وقال للمشرفين أحضروا إليّ(الأهبل) هذا حالاً، فوقفت بين يديه بعد أن أخِذَت إفادتي ووضعت أمامه على الطاولة، فنظر إليّ نظرة نسر جائع لعصفور مكسور الجناحين، وكان في قمة انفعاله، فأدركت أن التبريرات غير مجدية نفعاً، وربما تزيد الطينة بلّة فالتزمت الصمت.

صرخ حتى جفّت حنجرته وتوقف عن الكلام من تعب الانفعال، فسكت وأخذ يفّكر وسرحت أفكاره، فقلت بيني وبين نفسي يا للمصيبة يا ترى ماهي المصيبة التي ستحل بي بعد هذا السكوت المخيف؟! كنت قلقاً على مرتّبي والحوافز والترقيات من الضرر جرّاء تلك المخالفة، التقط قلمه من فوق الطاولة وأخذ يقلّبه يميناً ويساراً وهو غارق في تفكيرٍ أتخيّله أنه لا يبشّر بخير.

فوضع قلمه على الطاولة وتناول إفادتي للمرة الثانية وقرأها قراءة مطوّلة، ومن قراءتي لتعابير وجهه أنّ إجاباتي لم تعجبه، فرفع رأسه ونظر إلىّ نظرة حادة وقال: انصرف إلى عملك في القسم، فانصرفت وأنا قلقاً من العواقب التي ستصدر بحقي لاحقاً، وما نوعيتها، وهل سأتضرر منها مستقبلاً أم لا؟! فمرّ اليوم الأول والثاني والثالث ولم تتم إدانتي إدارياً.

لم أطمئنّ فذهبتُ إلى صديقي الخلوق/عبدالله عسيري؛ في الإدارة أتحسس عن عواقب تلك المخالفة إن كانت هناك عواقب، فلمّا رآني أشار إليّ بيده أن أخرج حالاً وقال: برؤية المسئولين لك تذكّرهم بالمخالفة، ولكن عليك التواري عن الأنظار، وعدم مراجعة الإدارة لعدة أيام، فقلت له: لا أحب أن أكون معلّقاً إما أن أحصل على عفوٍ، أو أن أحاسب وارتاح من هذه الورطة فقفز من كرسيّه وهو في حالة امتعاض وغضب فدفعني بكلتا يديه حتى أخرجني من المبنى وركلني بقدمه وقال لي: (اذلف لقسمك).

وما أن خطوت خطوات قليلة قاصداً القسم الذي أعمل به إلا وأنا وجهاً لوجه مع المساعد فيما يبدو أنه قادماً من الإدارة الرئيسية فنظر إليّ نظرة مطوّلة فيما يبدو لي أنّ خلف تلك النظرة تنشيط للذاكرة، اقترب وانحنى نحوي وقال بصوت خافت: هل حاسبناك على تلك المخالفة؟ في هذه اللحظة تلعثمت فلم أرغب أن تكون إجابتي كاذبة، ليس حباً بالصدق ولكني أعرف أنه يعرف كل شيء، ولكن بمثابة اختبار لمبادئي.

صارحته بصدق، وقلت له: أرجوك ألاّ تحذو حذو حظي الذي أتى بي إليك وذكّرك بالمخالفة بعد أن كانت نسياً منسيا، فضحك وقال: (اذلف) واستمر في طريقه، وتم إعفائي من تبعات تلك المخالفة، وتبين لي أنهما أرادا تأديبي وردعي عن ارتكاب مثل تلك المخالفة دون الاضرار بمستقبلي كوني آنذاك صغيراً في السن، وأجهل الكثير من الأمور، وما زلت وحتى هذه اللحظة أكنّ الاحترام والتقدير للقائد ومساعده.