العِفَّة هي خُلق إيماني رفيع للمؤمن والمؤمنة وهو ثَمَرة من ثِمَار الإيمان بالله وتعني ضبط النفس عن الشهوات والتَنَزُّه عما لا يُباح والكَفّ عنه وغنى النفس والاستغناء عن الناس وعَمَّا في أيديهم وقصد الاعتِدَال، وهي دعوة للبعد عن سفاسف الأمور وخدش المروءة والحياة ولَذَّة وانتصار للنفس على الشهوات بعفتها ونزاهتها وطهارتها.

أنواع العفة:- للعفة عِدَّة أنواع مختلفة من أهمها:

* عفة الجوارح:- وهي عفة العين والأذن واليد والرجل والفرج واللسان عن الحرام والشهوات حيث قال الله تعالى في عفة الشهوات {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور-33).

* عفة المال:- والتي تكمن في اجتناب كَسْب المال الحرام بالقناعة والترفُّع عَمَّا في أيدي الآخرين وعن الصَدَقات إلا من كان يحتاجها، كما في هَدْي النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك عندما رأى الرسول تمرة فقال: “لَوْ لَا أن تَكُونَ مِنْ صَدقةً لأكَلْتُها” (رواه البخاري).

* العفة عن الفواحش:- وتكون بغض النظر عن العورات ومظاهر الفتن وعدم الاختلاط المُحَرَّمْ، لقوله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهِمْ} (النور-33)، وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(النور-21).

بعد هذه المقدمة التوضيحية عن العفة نأتي لقصة من أجمل قصص العفة في القرآن الكريم وهي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع ابنتي سيدنا شعيب عندما ورد ماء مدين ووجد عليه أمة من الناس يَسْقُون (وأمة تعني جماعة) ووجد من دونهما امرأتين تذودان (أي تكفكفان أغنامهما عن الماء) لعدم إيذاء الرعاء، فَرَقَّ لضعفهما ورَحِمَهُمَا وسألهما “ما خطبكما؟” قالتا “لا نسقي حتى يُصْدِرَ الرعاء” أي بعد فراغ الرعاء خشية مخالطة الرجال ومزاحمتهم، وكان السبب في خروجهما هو الاضطرار والحاجة الماسة للخروج في قولهما “وأبونا شيخ كبير” أي لا يمكنه القيام بذلك، “فَسَقى لَهُمَا ثم تَوَلَّى إلى الظِلْ فقال: “ربِّ إني بما أنزلت إلي من خير فقير” وهي من عفة سيدنا موسى عليه السلام وأمانته مع المرأتين بأن ابتعد عنهما بعد معروفه لهما، ولَمَّا عَلِمَ سيدنا شعيب القصة من عودة ابنتيه المُبكِّرَة خلاف ما اعتادتا عليه، طلب لقاءه وشُكْرِهْ، وهنا يأتي دور عفة ابنة سيدنا شعيب عندما قال الله عنها {فجاءته إحداهما تَمْشِي عَلى اسْتِحْيَاء، قَالَتْ إنَّ أبي يَدْعُوك لِيَجْزِيك أجَر مَا سَقيْتَ لنا} (الاية-25) أي بخطوات يملأها الحياء والعفة لأنها تستحي من مُخاطبة شاب غريب عنها اضْطُرَّتْ للحديث معه كونها حُرَّة والحياء من صفاتها، وقيل أنها لم تضف كلمة واحدة عَمَّا قالَ لها والدها، وفي الطريق كانت تسير أمامه لتهديه لمكان والدها ومن عِفَّة سيدنا موسى أيضا وحياءه وخوفه من الله طلب منها أن تسير خلفه وتدُلَّه على الطريق حتى لَقِيَ سيدنا شعيب وقص عليه القصص “قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَالِمِين” (الآية-25)، وهنا تذكرت قول الله تعالى {وَمَنْ يَتِّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبْ} فالعفة والحياء لا تأتي إلا بخير دائما، وقد لَفَتَتْ عِفَّة سيدنا موسى عليه السلام نظر ابنة سيدنا شعيب بالإضافة إلى قوته وأمانته فبادرت أباها وقالت له {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (الآية-26) ولأنها تَرَبَّتْ في بيت النبوة والتحَّدُثْ بصراحة للمصلحة العامة لم يمنعها حيائها ذلك من هذا الاقتراح الذكي حيث قال علي بن أبي طالب “الحياء يمنع الرزق”، فوافق سيدنا شُعيب عليه السلام على اقتراح ابنته وعرض على سيدنا موسى الزواج من إحدى ابنتيه كما قال الله تعالى في كتابه { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (الآية-27)، فوافق سيدنا موسى عليه السلام لما رأى من هذه الفتاة من عفة واحتشام وحياء وقضى موسى عليه السلام الأجل المتفق عليه بينهما، وظهرت آثار العفة في هذه القصة التي تتمثل في رضا الله والفوز بثوابه في الدنيا والآخرة وضبط المسلم لنفسه وتحقيق المروءة وعِزّة النفس وكرامة الإنسان وصيانة العرض والشرف وآخرها محبة الناس وهو ما حصل لسيدنا موسى عليه السلام وهو غريب عن أهل مدين ولا يعرفه فيها أحد.
ثمار العفة في الدنيا والآخرة:- أما ثمار العفة فهي كثير ومن أهمها هي:

* الفوز بظل الله يوم لا ظل إلا ظله: وهو ما أكده رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديث أبى هريرة “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله” ومنهم “رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه” (رواه أبو داود والترمذي).

* النجاة من الابتلاء والمصائب: فقد أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بقصة أصحاب الغار الذين أغلقت عليهم صخرة فتحة الغار وبدأوا يدعون الله ومنهم من دعا الله بحق العفة في عدم الزنا بابنة عَمِّهِ عندما كانت لها حاجة مادية عنده وقالت له “يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه” فقال “اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه” (متفق عليه)، فكان أحد أسباب الفرج ونجاتهم بفضل الله من هذا البلاء.

* العفيف من الأوائل دخولاً للجنة: قال المصطفى عليه الصلاة والسلام ” فأمَّا أول ثلاثة يدخُلون الجَنَّة، فالشَّهِيد وعبد مَمْلُوك أحْسَن عِبَادة ربَّه ونَصَحَ لِسَيِّدَه، وعَفِيفٌ مُتَعَفِّفْ ذُو عِيَال” (رواه الترمذي وأحمد).

* إعِانَةَ الله لمن يرغب العفة: حيث تكفل الله بذلك وأكده الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله “ثلاثةٌ كلُّهم حقٌّ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ عونُهُ: المُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ، والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ، والمُكاتبُ الَّذي يريدُ الأداءَ” (رواه الترمذي).

* العفة عن أموال الناس: وهي من أهم أسباب الأمن والترابط والثقة بين أفراد المجتمع والبعد عن الفساد وقد قال الله تعالى في سورة البقرة {للفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ففَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (الاية-273).

ورسالتي من هذه القصة هي أن المرأة إذا اضْطَرَّتها ظُروف معينة إلى العمل والخروج من المنزل لقضاء حاجة لنفسها أو من حوائج أهلها لمحيط فيه اختلاط برجال غرباء، لابد أن تحافظ على عِفَّتها وحيائها وطريقة كلامها وسيرها ولبسها وحشمتها وسائر تصرفاتها وتتحدث باختصار دون ترقيق الكلام بما يفي بالغرض المنشود حتى لا يطمع أصحاب القلوب المريضة كما قال الله تعالى {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (الأحزاب-32).