جمع الله الطب كله في نصف آية من القرآن الكريم وهي قوله تعالى: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا).
قال القرطبي رحمه الله: “وفي قلة الأكل منافع كثيرة منها: أن يكون الرجل أصح جسماً وأجود حفظاً وأزكى فهماً وأقل نوماً وأخف نفساً ، وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة ، ويتولد منه الأمراض المختلفة ، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل ، وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بياناً شافياً يغني عن كلام الأطباء فقال صلى الله عليه وسلم: “ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان فاعلا لا محالة ، فثلث طعام ، وثلث شراب ، وثلث لنفسه”.
قال علماؤنا: لو سمع عالم الطب “بقراط” هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة ، ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين رضي الله عنهما: ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان ، فقال له علي رضي الله عنه: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا ، فقال له: ما هي ؟ قال قوله عز وجل: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) . فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب ، فقال علي رضي الله عنه: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة ، قال: ما هي ؟ قال: المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته ، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً. قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية : فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برئ وصح ، وإلا فالحمية به أولى ؛ إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية ، ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصل كل دواء الحمية ، والمعني بها – والله أعلم – أنها تغني عن كل دواء ؛ ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الحمية ، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح”.
وقوله تعالى: (ولا تسرفوا) أي: في كثرة الأكل ، وعنه يكون كثرة الشرب ، وذلك يثقل المعدة ، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه والأخذ بحظه من نوافل الخير ، فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه ، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه ، روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريداً بلحم سمين ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشى ؛ فقال: اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة ، فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا ، وكان إذا تغدى لا يتعشى ، وإذا تعشى لا يتغدى ، قلت: وقد يكون هذا معنى قوله عليه السلام: المؤمن يأكل في معى واحد أي التام الإيمان ؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده ؛ فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته ، وقيل: “من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت” ، وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع ، وكل ذلك محظور ، وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعاً فوق شبع ، فإنك أن تنبذه للكلب خير من أن تأكله.
فالله تعالى أمرنا أن نأكل مما رزقنا من الطيبات ونهانا عن الإسراف في الأكل والشرب بقوله: { وَلَا تُسْرِفُوا } ، والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات الذي يضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل والمشارب واللباس ، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام ،  وأخبرنا سبحانه بعدم محبة المسرفين بقوله: { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ؛ لإن السرف يبغضه اللّه ، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما.
خاتمة:
شهر رمضان شهر لزيادة الإيمان وليس شهراً لزيادة الأوزان.