الحمدُ للهِ الذي جعلَ شهر رمضان سيد الشهور، وضاعف فيه الحسنات والأجور، والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل من صلى وصام وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أمابعد:

فأيام قلائل – أيها الأحبة – ويحل علينا ضيف كريم وموسم عظيم من مواسم التجارة مع الله الذي طالما انتظرنا نفحاته من العام للعام، وطالما تاقتْ أنفسنا لنسماته التي تغمرنا بما فيها من أريج الطاعات، ومَعين القربات، وفيض العطايا والرحمات.

رمضانُ يوشكُ أن يَهُبَّ هَبوبُهُ
وتَذوبَ في نفحاتِهِ أرواحُنَا

هذي نسائمُهُ وتلك طُيوبُهُ
كالأُمنِياتِ البِيضِ إذ تجتاحُنا

فمن جميل نعم الله علينا أنْ يمد لنا في العمر، فيُبلغنا هذا الشهر الفضيل الذي تُعَظمُ فيها الطاعة، وتُطِيبُ فيها مظاهر القرب والضراعة، وتزدهي أرجاؤه بكل أنواع العبادة والقرب من الله تعالى، شهر الهدى والفرقان، شهر الرحمات والغفران والعتق من النيران، شهر اصطفاه الله تبارك وتعالى من بين سائر الشهور بشتَّى الخيرات والبركات، وخص به هذه الأمة، لرفعة الدرجات، والتنافس في الطاعات، والاجتهاد في العبادات والتسابق في مضمار الحسنات والفوز بأعلى الجنات.

إِنِّي بِشَوقٍ مَالهُ عِنْوانُ ..
لِليلِ.. لِلقُرآنِ.. لِلنَفَحَاتِ
يَبْعَثُ رُوحَهَا الرَّحْمَنُ

هَذَا الحَنِينُ يَقُولُ لِي
إِنِي أَشُمُّ شَذَاكَ يَارَمَضَانُ

وما أن يأتي رمضان – أيها الأحبة – حتى تشتعل نار الحنين بمقدمه، فتستحث همم المتقين، وتستنهض عزم العابدين، يرحبون بمقدم هلاله، ويبشرون الناس بقرب موعد قدومه، ويتغزلون في جمال هلاله.

أُقَلِّبُ طَرْفَ العَينِ في كل وجهةٍ
أهلّ هلالٌ منك أم لاح مرقبُ!!!

أيا قادمًا رفقًا فلقياكَ عِندنا
لأحلى من الشهدِ المُصَفَّى وأعذبُ

أيا قادمًا هلتْ بشائرُ قُربِهِ
نسائمهُ فَاحَتْ فيا سُعْدُهُ قربُ

وخير مايستعد به – أيها الأحبة – أن نجعل استقبالنا لهذا الضيف الكريم نقطة تحول فى حياتنا الايمانية، وأن نحسن الاستقبال وأن نقف مع أنفسنا وقفات صادقة تكون لنا ذكرى جميعا في بداية هذا الشهر:

الوقفة الأولى: الدعاء.
قال -تعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60].
والدعاء النافع في استقبال رمضان على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: دعاء العبد ربه أن يبلغه شهر رمضان، فيدعو الله -عز وجل-: “اللهم بلغنا رمضان”.
النوع الثاني: دعاء العبد ربه أن يوفقه فيه لصالح الأعمال، فيدعو ربه: “اللهم أعني فيه على الصيام والقيام، وسائر الأعمال الصالحة”.
النوع الثالث: دعاء العبد ربه أن يجعله فيه من المقبولين، وأن يختم له بالعتق من النيران.

الوقفة الثانية: استحضار النية الصادقة في استقبال رمضان، فيجمع
قلبه على أن يعمل في رمضان الصالحات، قال الله -تعالى-: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحجرات:16]، وقال النبي ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات)
وكان الإمام أحمد يقول لابنه عبد الله: “يا عبد الله، انو خيرا؛ فإنك وإن لم تعمل فنيّة الخير لك عمل”.

الوقفة الثالثة: التذكير بأن في هذا الشهر الكريم ثلاث فرص للمغفرة ينبغي أن يستحضرها، وهو يستقبل هذا الشهر:
قوله ﷺ: (من قام رمضان إيماناً، واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه)[أخرجه البخاري ومسلم].
قوله ﷺ: (من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)[أخرجه البخاري].
قوله ﷺ: (من قام ليلة القدر إيماناً، واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه).
)[أخرجه البخاري ومسلم].

الوقفة الرابعة: أن يستحضر أن هذا الشهر شهر عبادة، وشهر تزود بزاد التقوى، وليس شهر لهو أو غفلة أو مرح، أو شهر تفنن في أصناف الطعام، وألايكون حاله في رمضان كما كان قبل رمضان، بل يحرص أن يكون حاله في رمضان أفضل من حاله قبل رمضان، فيحرص ألا يقع في صيامه معصية؛ لأن كل معصية تنقص من أجر الصائم.

الوقفة الرابعة: أن يعقد العزم على المحافظة على الفرائض والواجبات، والتزود من النوافل والطاعات، وتلاوة القرآن، وخاصة صلاة التراويح فيحرص ألا تفوته ركعة مع الإمام.

الوقفة الخامسة: التخفف من مشاغل الدنيا، فالنبي ﷺ: كان إذا دخلت العشر انقطع عن الدنيا وانقطع عن الناس وتفرغ للعبادة تفرغا تاما.

الوقفة السادسة: أن يستحضر أن يكون صومه لله إيمانا واحتسابا، كما في الصحيحين، قال ﷺ: (من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
فيعتقد بحق فرضية الصوم، وأنه يصومه مصدقًا بوعد الثواب عليه، من الله – تبارك وتعالى – وأنه من شرائع الدين، فيذعن، وينقاد قلبه لذلك، ويؤمن بأن الله يجزي على هذا الصوم، (إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به) )[أخرجه البخاري].
وأما الاحتساب فهو أن يطلب الأجر من الله – تبارك وتعالى – وأن يحتسب الثواب، وذلك بأن يصومه عن معنى الرغبة في ثوابه، طيبةً نَفْسهُ بذلك، غير مستثقلٍ لصيامهِ، ولا مستطيل لأيامهِ.

الوقفة السابعة: وجوب التفقه في أحكام الصيام، فالواجب على العبد أن يتفقه في أحكام ومسائل الصوم ، وأن يتعرف على المفطرات والأمور التي لا تفطر، والآداب والسنن وغير ذلك مما يتعلق بشهر الصوم.

الوقفة الثامنة والأخيرة: أن يستحضر العبد أن شهر رمضان مدرسة لتجديد الإيمان، وتهذيب الأخلاق، وتقوية الأرواح، وإصلاح النفوس، وضبط الغرائز، وكبح جماح الشهوات، وأنه مدرسة للبذل والجود والبر والصلة، ومنهل عذب لأعمال الخير، وأنه محطة لتعبئة القوى الروحية والخلقية التي يحتاج إليها، وأن يكون له هدف من وجوده، يغتنم نفحات الرحمن، كي لا يكون ممن أدركوا رمضان إدراك زمان فحسب.

إِنَّا لَنَفْرحُ بالأيامِ نَقْطَعُهَا
وَكَلُ يَومٍ مَضَى يُدْنِي مِن الأَجَلِ

فَاعمل لِنفسِكِ قَبْلَ المَوتِ مُجتهدًا
فإنَّمَا الرِّبحُ والخُسَرانُ في العَمَلِ

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يبلغنا أجمعين رمضان، وأن يوفقنا لحسن اغتنام أيامه ولياليه، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وعلى ذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يصلح لنا شأننا كله، والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.