يقول أحدهم: “بينما أنا على رأس عملي، قالت لي إحدى الزميلات: يا نبيلَ، أعطني التقارير كي أعطيها للمدير.

فقلت لها: حاضر، لكن ضمي نبيلَ أولا فالمنادى يجب ضمه هنا.

وقد كانت زميلتي لا تعلم الإعراب ولا المنادى، فذهبت واشتكتني لمدير العمل الذي لم يكتفِ بطردي، بل اتصل بالشرطة وسلمني إليهم بتهمة التحرش بإحدى الموظفات. أخذتني الشرطة، وبعد ألف صفعة على وجهي، وألف لكمة على أنفي، انتهى دوام عساكر الصباح، الذين كلما قلت لهم أنني قصدت أن تضم اللام لا أن زادوا في قوة الصفعة.

جاء عساكرُ المساء، وكان في مقدمتهم رجل علم مبحر في كل شيء، فسألني: “ما تهمتُك يا أيها النبيلُ!” وأشبع اللام فظهرت واوا.

فقلت: “جاءَ الفرج”

رد سريعا: “أي فرج؟ ومكتوب في سجلك أنك متحرش بسكرتيرة المدير”

أجبت: “يا عسكريَّ، إنني..”

فقاطعني: “بل يا عسكريُّ”

فقلت له: “تهمتي هي تهمتك، أنني صححت خطأ لغويا لإحداهن، فظنته تحرشا.” وسردت له القصة مفصلة، ثم أردفتُ: “ها أنا بين يديك، وها قد علمت حكايتي، فاحكم بحكم الله، وبرجاحة عقل عمر، لا بحكم الجاهلين.”

أخذني الشرطي، ومن حسن حظي أنه كان برتبة ضابط، فخلَصني من القيود، ولم يكتفِ بذلك، بل أخذ بي إلى مكان عملي في اليوم التالي، وشرح قصتي لمدير العمل، الذي تبين لنا من خلال فكره المحدود أنه لم يجتز مرحلة متقدمة من التعليم ، وقدم اعتذارا للموظفة بالنيابة عني.

ما عدت أنسى عبارة باتت لا تفارق سمع عقلي، “خاطب الناس على قدر عقولهم”، فالمخاطب يحكم عليك بما وعاه عقله، لا بما أردته أنت.

ليس فقط مخاطبتهم على قدر عقولهم، بل وأيضا على قدر نفوسهم وأعينهم وألسنتهم، وعلى قدر مواقفهم معك وعلى قدر شرهم وعلى قدر حقدهم وأذيتهم. استوعب جيدا كل درس مر عليك، احرص على خطابهم على قدر عقولهم حتى تتجنب فيما بعد أذيتهم. إن فلسفة التعامل مع بني البشر تعتمد علينا بالدرجة الأولى.

نكتشف في أحايين كثيرة أنه حتى لو كنا دائما نحن الذين على الحق وننطق بالحق إلا أن هناك أشخاص لن تستوعب عقولهم ذلك الحق الذي نقوله أو نعنيه، لن تكون الشجاعة عند أحدهم لتصحيح مفاهيمه ونظرته للأمور أو معتقداته الخاطئة، وأيضا لن يكون لديه الجرأة حتى بالاعتراف بذلك،

لذلك من الأسلم دائما أن نعرف كيف نتعاطى مع الآخرين على قدر عقولهم فقط وأن نخاطبهم باللغات التي يفهمونها.

تلك هي المعادلة الصحيحة والحكيمة التي يجب أن نتبعها مع أمثال أولئك وذلك حتى لا نهدر طاقاتنا مع أمثالهم.