يبدو أننا اعتدنا الرياء الذي هو كما نعلم، التحية التي تقدمها الرذيلة للفضيلة.

إن الحكم الأخلاقي لا يتضح إلا في بعض حالات بيّنة بصورة خاصة: البائع الذي يحتكر سلعة، لأنه يتوقع أن يرتفع سعرها في وقت قريب، إنه يقوم بمضاربة غير أخلاقية.

والتاجر الذي يفيد من فترة الحرب ويختلس ثمناً خيالياً لبعض السلع الضرورية، يقترف فعلاً غير اجتماعي وغير أخلاقي، وثمة أخيراً ظروف يكون الوضع الاقتصادي فيها بالغ الاشتداد مما يجعل كل بائع يرى في نفسه عرضة لغواية الإفادة منه لاستغلال الزبائن.

والأمر غير الأمر بالنسبة لعدد كبير من الممارسات التجارية التي ليست هي أيضاً سوى استغلال وضع من الأوضاع.

ففي مثل هذه الحالات تبقى الأخلاق عاجزة عن مكافحة الشر تارة لأنه قد أُخفى عن الأنظار كل شيء يجري في الدهاليز، وتارة لأن أحداً لا يدركه حتى ذلك الذي هو مسؤول عنه.

إن تبادل النقد هو أعظم الظواهر الاجتماعية في الحضارات الاقتصادية.

وقد نجم عن سهولة القيام بمختلف أنواع المبادلات بواسطة النقد أن أخذت به جميع المجتمعات التي يشكل تقسيم العمل أساس تنظيم الإنتاج فيها.

فالنقد قبل أن يكون في الغالب موضوع جشع، وقبل أن يصبح على الدوام وسيلة للعيش، إن هو إلا أداة ضمن تقنية متقدمة للمبادلات.

إنه القاسم المشترك بين القيم جميعاً، وهو يجعل العائدات النقدية ينبوع كل قوة اقتصادية. وعلى هذا النحو تظهر سلفاً، أداة السيطرة في قلب أداة المبادلات.

إن الأهمية التي تتمتع بها فكرة النقد وموضوعه في الأفكار وفي العقول، تضطرنا إلى النظر إلى منزلته في الأخلاق العملية. والحق أن الخير والشر كليهما قد وجدا في النقد ميداناً وسيعاً للصراع. وهذا بدهي، ما دام القسم الأعظم من المبادلات، إنما يتحقق في شكل نقدي، وما دامت المبادلة تواكب الحياة الاقتصادية بأسرها، وهي حصيلة الأعمال كلها، والمشروعات كافة، والاختراعات جميعها.

إن أهمية الأفكار الأخلاقية تبدو جلياً عندما نتصور النقد على أنه إشارة ووسيلة لحيازة الثروة. إنه المجال المألوف ” للمال”، وكبش فداء جميع مثالب النظم الاقتصادية المستندة إلى الاغتناء الفردي.

فالناس يتحدثون عن المال الباعث على الفساد، والذي يحدث امتلاكه أضرار في القلب والنفس.

أجل إن الفرد الذي يصبح غنياً يتمتع في الغالب بالرفاه الذي يتيحه له المال، وهو ينسى عندئذ في أغلب الأحيان رفاق بؤسه.

إن ما يثار بصدد الثروة الكبرى هي أنها تتيح دوماً سيطرة فرد واحد على عدد كبير، سيطرة لا تستهدف مباشرة رفاه الأتباع بل مزيداً من إغناء السّيد.

وبالرغم من ذلك، فإن ثمة وضعاً أخلاقياً مقابلاً هو أيضا أمر ذائع نصادفه أحياناً لدى أولئك الذين هم أنفسهم يعترفون بالمساوئ التي يقود إليها الشح.

ذلك أن المال في نظرهم هو الإشارة المشخصة إلى العمل ومنتجاته. وبعبارة دقيقة، المال، لأنه هو من العمل، أمر طيب جليل بَلْه مقدّر.

إن المال وهو أداة تحويل القيمة هو الأسلوب الذي يتيح للإنسان أن يتصور المستقبل وأن يرى أبعد من يومه وأبعد من جيله، بالإرث الذي يتركه لأبنائه.

المال وسيلة التقدم الاجتماعي المستند إلى العمل وهو أداة يومية للرفع وللحفاظ على القيمة، وإنه ليتحقق انخراط الإنسان في الزمان، وهو يقدم له ثواب جهوده، كما يقدم له أيضاً معنى واجباته.

ومن ثم، يُدخل المال في الحياة الاجتماعية فكرة الأمانة في أداء الواجب.

هذان الوجهان المتعارضان من الحكم الأخلاقي على المال تلقاهما تقريباً لدى كل واحد منا.

إن أخلاق الحيطة الاجتماعية والحذر تقدم إلى فضيلة التوفير والادخار أفضل الأسس.

فالتوفير هو فعل تضييق الاستهلاك الحالي لزيادة الحصة الادخارية لمجابهة الطوارئ وظروف المستقبل.

لا ريب أن إدارة تحسين المرء شروط وجود الأسرة والأبناء بطريق العمل والوفر أمرٌ محمود. بيْدَ أننا قد نغالي في بعض الأحيان حين نعتبر السمة الفاضلة في فضيلة التوفير. ذلك أن أنماط التوفير ليست كلها فاضلة على قدر سواء. فالذي يوصل إلى حد البخل يعتبر نمطاً مرذولاً، وكذا النمط المتصف بالشح وإمساك اليد.

إن من واجبنا أن نفكّر في عادات طراز المعيشة التي تجعل التوفير يسيراً على بعض الأشخاص.

فمن العسير تحديد منزلة التوفير بوصفه فضيلة تقع بين البخل والتبذير، إنها فضيلة وسط، كما أنه من غير الممكن تحديد السخاء والبّر بحدّ أقصى.

ومن خصال المال الذي يعترف بها الباحثون أنه يمنح الفرد شعوراً قوياً بواجباته. فثمة أخلاق تامة تدور حول الوفاء بالعقود والأمانة الاقتصادية والمالية.

إن بعض الناس قد يظنون أن ليس للمشاعر الأخلاقية أيّ نجوع في السلوك الاقتصادي.

وبالرغم من ذلك، فإن هذه المشاعر تنهض فيه بدور، بَيْدَ أن مدى هذا الدور يختلف باختلاف الأصقاع والأزمنة.

فإذا لم تتحقق الوفرة في قطاع محدد من قطاعات الاستهلاك، ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار نزعة الناس إلى التنافس للحصول على الخيرات النادرة.

إن من شأن المذهب الاقتصادي أن يمضي في إبداع نفسه باطراد وهو يفسّر الوقائع الجديدة ويوجه الرأي بحسب الأهداف الأساسية والعادات الأخلاقية في المجتمعات.
إن الهوة الساحقة بين الأفعال والأقوال تثير في الغالب حفيظتنا وشعورنا بكرامتنا.

ولعل أكبر الشرور إنما يحدث حول الموائد الخضراء في المؤتمرات الدولية.

إذ يحسب الخبراء المجتمعون للبحث عن حلول لمشاكل اقتصادية، والبحث عن شؤون التجارة والأعمال أنهم مرغمون على التصريح المألوف عن محاسن حرية التجارة بين الأمم، بينما يحملون في حقائبهم الأمر الصارم بخنقها؟!.

أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

للتواصل : [email protected]