خطب القرآنُ الكريمُ السيكولوجية البشرية بأساليبَ تتوافق وهويتها المعقدة في الفهم والإقناع؛ فحملت الآيات القرآنية في مضامينها مناهج تربوية متكاملة ذات مرجعية نفسية وتربوية بالغة الدقة فوصفت كافة النظريات التربوية والنفسية بجملٍ وكلماتٍ غاية البساطة والعمق، وذلك قبل أن يعرف العالم المصطلحات والنظريات التربوية متجاوزة عصر النهضة الأوربية وأفكاره بنحو أكثر من ألف وأربعمائة عام بمسميات ومرادفات قرآنية شارحة للنظريات الحديثة، وإن اختلفت لغويًا إلا أنها اتفقت اصطلاحيًا وفاقت منهجيتها، ومن تلك المصطلحات التعلم بالقصص أو الدراما المنهجية والذي يُعد من الاستراتيجيات التربوية الحديثة الذي استهدفته آلاف الدراسات والبحوث في مختلف الجامعات العالمية بالبحث والتجريب في العقود الأخيرة، في حين أن القرآن الكريم تناوله منذ صدر الإسلام بأسلوب تربوي بالغ التأثير، حيث وظفته الآيات القرآنية كأحد أهم المداخل التربوية لبناء الشخصية المسلمة وفق مبادئ عدة أهمها: دفع المستمع والقارئ نحو المشاركة في الأحداث ونقله لمعايشتها وجدانيا، ودعم الإقناع التربوي السلس والتأييد المبني على المنطق لتشكيل العقيدة والسلوك السوي للشخصية المسلمة من أهم هذه المبادئ، وأيضا التحليل النفسي للتربويات والعادات الفاسدة وتناولها في ضوء نمط تربوي متدرج يجبر الفرد على رفضها بمجرد الانتهاء من تناولها، ودعم العلوم الحسية والتجريبية في معالجة القضايا والأحداث المختلفة وتأهيل السيكولوجية البشرية لعالم الغيبيات والإيمان به وتصديقه، وأيضا إرساء قواعد الثواب والعقاب وبث روح الطمأنينه في النفس البشرية ودعم الارتقاء الروحي، وبناء العواطف والاتجاهات والقيم السليمة من خلال نقل النفس إلى عوالم الحدث ما بين رفض وقبول معتمدة على المقارنة والاستدلال والاستنتاج والوصول إلى قناعات أساسها جمع الأدلة والبراهين واعتماد خطوات التفكير العلمي.

هذا وتبرز أهمية هذه الأسس ومضامينها التربوية في العديد من القصص التي تناولها المنهج القصصي أو الدرامي ضمن أحداثه وشخصياته وحواره في مختلف القصص التي تناولها القرآن الكريم كما في قصة (موسي والخضر) والتي تُعد أبلغ وسائل التربية القصصية التي دعمت أسس البحث وتلقي المعرفة ومصاحبة أهل العلم، وأيضا قصة (يوسف) التي أصلت أساليب مقاومة الإغراء وتغليب العقل لبناء شخصية مسلمة سوية، وقصة ولدي أدم (قبيل – هبيل) حيث قدمت نموذجا بشريا لأنماط النفس وتناقض أركانها بين الخير والشر، وقصة (أيوب) والتي قدمت قيما تربوية لإدارة الأزمة والتغلب على نوائب الدهر، وقصة (يونس) وأحداثها حيث أرست مضامين تربوية عديدة أهمها أن الالتزامَ والاستقامةَ في الرخاء نجاةٌ في الكرب، وقصة (صالح وثمود) والتي أشارت إلى ضرورة الاعتبار بمصارع الظالمين وتغليب العقل ونسخ السلوك المستقيم، وقصة (قارون) وتحذيرها من الثراء الزائف والتوجيه لفهم قيم الحياة فهما صحيحا، وقصة (عاد) مثال لأهمية استقلال الرأي وعدم الانصياع للأراء المعاندة دون حجة أو برهان صائب.

كل هذه نماذج قصصية حملت مضامين تربوية تتسع لمئات الصفحات لرصدها وتحليلها، فهي وسائل تربوية (قرآنية) تحمل في أحداثها توجيها وتعليما يرسخ البناء المعرفي لدى المستمع أو القارئ (المتعلم) ويدعم التعلم بالمثال في بيئات فيزيائية وبيولوجية متقاربة ومسالك متنوعة؛ فالهدف القصصي لم يكن للإمتاع أو إثارة الغرائز البشرية بل كان غرضا تربويا مقصودا وموجها بقوة التأثير السيكولوجي للنفس حول الهدف المراد تأصيله أو ضحضه.