حثّ فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي المسلمين على اغتنام فضائل العشر الأواخر من رمضان ولياليها المباركة، وتحرّي ليلة القدر التي ميّزها الله واختصّها بعظيم ثوابه، وذكرها في محكم كتابه بأنها خير من ألف شهر.

وقال الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي في خطبة الجمعة بالمسجد النبوي اليوم : هذه نسائم العشر الأواخر قد أقبلت، ونفحاتها قد اقتربت، وأنوارها قد لاحت، ونفوس الصالحين لفضلها متشوقة فيها تنصب الأقدام بين يدي الرب مناجية، وترفع الأكفّ متضرّعة داعية العشر الأواخر من شهر رمضان هي أفضل عشر ليال للعبادة وإذا تأملت هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر عرفت قدرها، وقدّرت قيمتها اجتهاداً في العبادة يفوق غير العشر.

وأورد فضيلته ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان : “كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره”، مبيناً أن هذه الكلمات الوجيزة البليغة توقظ الهمم، وتشحذ العزائم، وترسم المنهج النبوي لمن رام فوزاً ونجاحاً وفتحاً، كما تقول عائشة رضي الله عنها :” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر: شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، فكان يملأ وقته بالعبادة، ليسمو قلبه إلى معارج القبول، وتصفو نفسه من عوالق الدنيا والأكدار ، ويذكّر أهله، ويحفزهم ويوقظهم ليدركوا الفضائل، ويغتنموا درة الشهر، ويتعرضوا للنفحات، ويلحقوا بركب الصالحين.

وحضّ فضيلته بأن يغتنم العبد هذه الليالي المباركة فيحمد ربه، ويشكر خالقه أن أمهله في الحياة، ومدّ في عمره ليتدارك ما فات، ويستزيد من الطاعة، ويغرف من خير أجلّ مواسم الحسنات، وخيركم من طال عمره وحسن عمله، والأعمال بالخواتيم وإذا علم المسلم علماً، واستشعر يقيناً أن العمر قصير، والأيام سريعة، والأجل قريب، والفرص قد لا تتكرر؛ داعياً إلى المسارعة في الخيرات، والحرص على اغتنامها في رمضان، سيد الشهور الذي يتوالی خيره وبرکته، فمن كان مقبلاً فإنه لا يبرحُ مكانه بل يزيد، ومن فرّط أو غفل في أول الشهر فإنه في هذه العشر يُسرع الخطى، ويحثّ المسير، ليلحق بركب السعداء، ويجعل له مكانة مع الفائزين، فالفرصة سانحة، والفسحة ما زالت قائمة، والموفّق من أوقد شعلة حماسه، وعقد العزم، مستعيناً بالله مقبلاً على المساجد، مجدداً النية، نافضاً ثياب الكسل.

واختتم فضيلته الخطبة بقوله : ليلة القدر لا يخرج الشيطان معها، فقد روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ” سـلام هي حتى مطلع الفجر فهي خيرٌ كلها، ليس فيها شرٌ إلى مطلع الفجر، والله تبارك وتعالى أخفاها، كما أخفى سائر الأشياء، قال العلماء : فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكُلّ، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروا عن الكَلّ، وأخفى وليّه فيما بين الناس حتى يعظموا الكُلّ، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلّف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلّف.

واستطرد فضيلته في بيان عظم ليلة القدر وما اختصها الله من ثواب وفضل أنه سبحانه وتعالى أخفى هذه الليلة ليعظم العباد جميع ليالي رمضان، فهي ليلة تروي ظمأ القلوب المتعطشة للعفو والرحمة، المتطلعة إلى المغفرة بعد أن لوثتها الذنوب، وأرهقتها الغفلة، وطمست ضياءها، ليلة القدر ليست كألف شهر بل هي خير من ألف شهر، ليلة الجلال والجمال، وهي تحتضن المصلين الخاشعين الذاکرین الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، الذين رفعوا أكفهم وضجّت زوايا المساجد بدعائهم بقلوب خاشعة مخبتة، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، والسماء يتلألأ نورها ويزهو ضياؤها حيث تتنزل منها ملائكة الرحمة والمغفرة، يرافقهم الروح الأمين جبريل عليه السلام، ليشهد الجميع السلام من السلام، وتبرُد أكباد التائبين، وتسكُن قلوب المذنبين، وتُجبر نفوس المنكسرين، فما أعظم معنی غفر له ما تقدم من ذنبه، حينها غدراتنا وذنوبنا تمحى، والصحائف المسودة بالغفلات تطوى، والزلّات والخطايا في مسيرة العمر الماضية يحلّ بها عفو الله، تقصير المرء وضلاله في سنينه السابقة يبلغها سلامٌ ليلة القدر، قال تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر”.