لا تزال صورته مرتسمة في ذاكرتي رغم مرور أكثر من عقد من الزمن على فراقه رحمه الله، كنت أراه من الرجال الأتقياء _ ولا نزكي على الله أحداً_، كان يذهب إلى المسجد مشياً على الأقدام رغم أنه يبعد حوالي ثلاثة أكيال عن منزله، ورغم وجود سيارة، وكان ذهابه قبل الأذان بوقتٍ كافٍ، فهو الإمام وهو المؤذن، وكان في سيره للمسجد فجراً يحمل معه مصباحاً صغيراً يبدد به الظلام الذي يخيّم على الشوارع وقتذاك، وفي جيبه سكيناً إنجليزياً بحجم اصبع اليد تلقاه هدية من أحد شيوخ قطر أثناء عمله هناك، وكان السكين حاداً وله رأسان قاطعان،كان يحد به مسواكه الذي لايفارق ثغره، وكانت رائحه الهيل والبُن تختلط مع البخور في شماغه وملابسه التي تبدو نظيفة على الدوام رغم قلة ذات اليد وغلبة الحاجة على أبناء ذلك الوقت، وذات يوم اتسخ ثوبه قبيل الصلاة ولم يكن ثمة وقت لغسيله و ثوبه الآخر لم يكن جاهزاً وحرصاً منه على الصلاة قرر أن يرتدي معطفاً طويلاً(بالطو) ثم ارتدى فوقه المشلح الذي لا يفارقه على عادة رجال ذاك الوقت، وذهب إلى المسجد ولم يلحظ أحد أن الإمام بلا ثوب، وكان من حرصه على الصلاة أنه يعتذر عن رحلات البر العائلية، فكثيراً ما حرم نفسه متعة التنزه في الصحراء التي عشقها من أجل أن يفتح المسجد ويؤذن ويؤم المصلين.

ذات يوم قَفَلْتُ عائداً إلى البيت وخيوط الفجر ترسم نهاية ليلة سعيدة بصحبة الأصدقاء، فدخلت البيت فوجدته مستيقظاً كعادته يصلي، فاقتربت منه وكان ساجداً يطيل السجود دون حراك، فأطال وأطال حتى ظننت ظن السوء، فخشيت أن يكون قد فارق الحياة، فلما رفع من سجوده تنفست الصعداء وعرفت أن هذه عادته كل ليلة، وكانت علاقته بالقرآن الكريم لا تَنفَّكْ، فلحيته البيضاء ونظارته السميكة لاتخفيان دموعه التي تخترق وجهه المثُقل بالسنين وهو يقرأ ورده كل ليله، ولكم أن تتخيّلوا مشاعر الصبي وهو يرى دموع والده!

وعن البساطة ولين الجانب والتواضع فحدّث ولا حرج، فذات يوم أتى متأخراً في مناسبة اجتماعية، وسلّم على الحضور ثم جلس حيث انتهى به المجلس قُرب الباب، فقام الجميع يدعونه للجلوس في مكانهم تقديراً لسنه ومكانته بينهم، فلما سألته عن سر تصرفه ذاك، قال لي : ماذا تريدني أن أفعل؟ هل أقول لهم قوموا عني؟

وكان من عادته احترام العمالة الأجانب على اختلاف أديانها ، وذات يوم أتت شركة إيطالية لبناء مدرسة أمام بيتنا الذي كان عبارة عن غرفة من الصفيح وبين شعر(كعادة بيوت ذلك الوقت)، فدعى والدي أحدهم لتناول القهوة، ولما حضر عرفنا أنه المقاول المشرف على المبنى، وكان إيطالياً يحمل الصليب على صدره، فأكرمه والدي ودعاه إلى العشاء، وكان الإيطالي يسأل عن كل شيء ثم يكتبه، وعرف أن اللحم المقدم إليه هو لحم خروف، وفي اليوم التالي أتى هذا الإيطالي(واسمه جيوفاني) يحمل خروفاً وينادينا من خارج البيت (كروف كروف كبسة كبسة ..) وسط ضحكاتنا لموقفه الكريم ولمعرفته السريعة باللغة العربية المكسّرة، وقد توالت الأيام وجيوفاني كلما جاء إلى رفحاء يحرص على زيارتنا في منزلنا المسلح (فيما بعد) ويقدم لنا الحلوى والهدايا حتى غادر إلى بلاده.

بقي أن أقول أن والدي كان مثالاً للمواطن الصالح الذي أحب وطنه وقيادته، ولم أذكر أنه أذكى في نفوسنا الحميّة القبلية، ولا ذكريات أمجاد القبيلة، وكان مثالاً للصبر وقوة التحمل رغم جسمه النحيل الذي أرهقه المرض والكدح؛ فوالدي رحمه الله تنقّل في العديد من الوظائف والبلاد، وضحّى بكثير من الوظائف المرموقه التي تقلدها فترات متنوعة بِراً بوالده البدوي الذي يطلبه للحضور للبادية كلما غادر الراعي الذي يتولى إبله وأغنامه وكلما أجدبت الأرض، فكان يضطر إلى ترك وظيفته لكثرة الإجازات التي تحول دون استمراره منضبطاً كما هي شخصيته.

فكان قد عانى كثيراً من ذلك فترات من حياته، وعانينا معه حيث مرّت بنا ظروف قاسية نتيجة لذلك، ولكنه أَمّن لأبنائه فرص التعليم وشجعهم على الالتحاق بالجامعات بنين وبنات.

ومن دروسه التي لا أنساها تقشفه الشديد وزهده بالدنيا، فهو من النوع الذي زوج بناته (بريال وشيمة رجال) كما يقال، وأتذكر أن أحد أقاربه كان يعمل رئيساً لقسم الأراضي في احدى المدن طلب منه أن يرسل أوراقه الثبوتية لاستخراج أراضٍ له ولأبنائه، ولكنه رفض ذلك خوفاً أن يكون في هذا الأمر محظوراً دينياً.

رحم الله والدي فقد أرهقه مرض الربو وأدخله مرض التهاب السحايا في الغيبوبة لعدة أيام وكان في أيام مرضه الأخيرة يقوم بالآذان دون وعي، وكنت أسمع ذلك منه بوضوح، وكان دائم السؤال عن وقت الصلاة وعن شهر رمضان رغم أنه كان في شبه غيبوبة قبل أن يودعنا دون وداع، فقد رحل بصمت كعادته دون ضجيج، ولكنه ترك لنا دروساً لازلت أتعلّم منها كلما حلّت ذكراه، وكثير ما تَحِلّ.