نعيش هذه الأيام في الإمارات شهر القراءة، هذه المبادرة الوطنية التي تهدف إلى تشجيع حب القراءة وتنمية المعرفة وإرساء العقول بالعلم المفيد، الذي بأثره تتطور عجلة التنمية البشرية والاقتصادية لما لها من أبعاد مستقبلية تفيد في بناء الدولة وتعزيز أمنها الوطني بسلاح العلم.

وسأتناول في هذا المقال أحد الموضوعات الجميلة في نظري ومن المواد العلمية المحفزة والملهمة والمشجعة في إضفاء الفائدة بالتعمق بها قراءة أو تعلما ولها ارتباط في حياتنا اليومية..

سأثري الموضوع بشكل واضح وبسيط قدر المستطاع حول مفهوم السيميائيات أو Semiology كما يقولها الفرنسيون أو semantics/semiotics كما يطلقها الإنجليز، هذا العلم الذي يفقهه من هو متعمق أو مطلع على علوم اللغويات والاتصال وهندسة الرأي العام والسياسة وكذلك في تقنية المعلومات والاقتصاد..

فعندما نتأمل في كلمة (السيميائية) نلاحظ أن لها أصل واشتقاق وجذر من كلمة (وسم) أي الإشارة أو العلامة أو السمة وتُعنى بالمفهوم الاصطلاحي ” دراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية ” (نقلا عن مؤسس العلم دي سوسير).

وهي في حقيقتها ” كشف واستكشاف لعلاقات دلالية غير مرئية من خلال التجلي المباشر للواقعة، إنها تدريب للعين على التقاط الضمني والمتواري والمتمنِّع، لا مجرد الاكتفاء بتسمية المناطق أو التعبير عن مكنونات المتن ” (بنكراد، 2003).
وهي من العلوم الحديثة التي أسسها العالم السويسري دي سوسير وأثراها كذلك العالم الأمريكي بيرس وغيرهم

ونحن كمسلمين تتجلى هذه الكلمة (السمة) في تراثنا العربي في كلامنا، بل يتجلي في أوثق كتاب للبشرية في القرآن الكريم بكل وضوح في كلام الباري -عز وجل- في عدة مواضع منها:
“تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ” سورة البقرة الآية 27
” سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ” سورة الفتح الآية 29

وأيضا توجد أدلة قديمة لدى التاريخ العربي القديم عن فهم وتناول هذا العلم أمثال الجاحظ حيث نقل عنه:
(فمتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه، وإن كان صامتا وأشار إليه، وإن كان ساكتا، وهذه هي الدلالة، كل ما يوصل إلى معنى معين) نقلاً عن مقال د. سمير أوربع- مصدر الأحمر فيصل:” معجم السيميائيات”، ص 32-33.

فالسيمولوجيا أو السيميائيات تدرس كل ما هو لغوي وغير لغوي من دلالات وإشارات ومدى تأثيراتها على الحياة وتبعاتها الإيجابية والسلبية.

ففي علوم الاستراتيجية يتشابه هذا العلم مع دراسات استشراف المستقبل بمنهجياته وأدواته التحليلية التي تسهم في دراسة الإشارات والدلالات في تحقيق المخرجات والنتائج المرجوة للنهوض نحو التطور وتلافي الأخطاء والقصور قدر المستطاع، الذي يكون بدراسة علامات قد تكون ظاهرة أو تم رصدها والعمل على تحليلها..

وكما هو الحال أيضا في علم الاقتصاد بكل تأكيد هنالك علامات وإشارات تدل على الحالة الاقتصادية من حيث التضخم الاقتصادي ومدخول الفرد ومعدل صرف العملة الوطنية وغيرها من الإشارات الدالة على وضع المناخ الاستثماري من حيث جاهزية البنية التشريعية والتنظيمية التي تعتبر دلالة واضحة تجذب المستثمر وبالتالي جذب الاستثمارات التي تعود بالنفع للدولة.

وفي يومنا هذا نرى دلالات وإشارات واضحة في تأثير وسائل الإعلام التقليدية والجديدة على المنظومة الاقتصادية وكيفية استطاعة العقل البشري ترجمة كلمات ورموز بسيطة تحمل سياق معين مرسخ لدى ذهن المتلقي حول القضية أو اتخاذها كسلاح مؤثر في غسيل العقول.

فقد شهدنا مؤخرا الحاصل مع العملات الرقمية- عالية المخاطر- التي تصعد صعودا صاروخيا بسبب إشارة أو دلالة بتغريدة من تويتر أثرت على أسعار العملات بشكل غريب وأيضا على أسواق المال، كما حصل مع الملياردير إيلون ماسك عندما غرد عن البتكوين وكذلك حول تطبيق signal.

وأيضا في خطاباتنا اليومية وإعلامنا اليوم التي باتت عادة واضحة من اعتماد مفهوم الرمز (?) الايموجي وكيف أصبحت أيقونة الإعجاب? مصدر ثروة وشهرة للبعض بل مصدر ثقة كذلك!

أما في علوم تقنية المعلومات الذي نجد له بحرا واسعا في سيميائيات البرمجة التطويرية التي من سمتها صناعة برامج تعتمد على ذكاء اصطناعي فريد تخدم الكائن الكسول(الإنسان) في تسهيل وتسخير أموره عن طريق دراسة البيانات وتحليلها من ثم فهمها بشكل أوسع لتشكيل علاقة بين الشيء وتصنيفه ضمن السياق المطلوب ينتج عنه فهم الطرف الآخر ما يريد وتسهيل المهمة بكفاءة عالية وجودة مميزة.

وهنا ندرك أن في الذكاء الاصطناعي وتسخير المهام عن البشر مع الوقت ستختفي بعض الوظائف وبالتالي ظهور بطالة من نوع جديد على كل من لا يفقه التكنولوجيا واعتماده فقط على الحلول التقليدية بدلاً من التسلح بالمعرفة ومواكبة التغيرات، وستواجه الحكومات تحدِ كبير في الاقتصاد والتنمية خصوصا التي لم تعمل على دراسة العلامات الحاضرة ضمن خطتها الاستراتيجية والاستشرافية بشكل يضمن مكانتها في المستقبل.

صحيح أن علم السيميائيات يتجلى بشكل قوي مع اللغويات ودراسات التواصل والإعلام وغيرها من العلوم الاجتماعية، لكن هذا لا يمنع بتسلح الشخص بمعرفته والتثقف فيه لما فيه من فوائد ليست قاصرة على الصعيد الفلسفي فقط بل تمتد إلى الصعيد العملي.

أخيرا من الصعب أن نجعل بحر علم كبير في قارورة مقال ضيق، هنا يأتي دورك كقارئ في توسيع مداركك في القراءة المفيدة.