الحارة القديمة هي الحي الذي ترعرع فيه معظم من هم حول سن الخمسين أو الستين عاما الآن، وإذا ذكرت له سيرة الحارة القديمة تجده يبدأ بسرد شريط الذكريات الذي في داخله من حيث المنازل الأثرية والجيران والشوارع والأتاريك (إنارة الشوارع) والسيارات القديمة والألعاب في ذلك الزمان الجميل والتجمعات في مركاز الحي والألعاب الرمضانية والفرق الكروية في الحواري والتنافس الشديد الذي كان بين المنازل القديمة المتواضعة الإمكانات والتي كانت تعمر بالسعادة والطيبة والصلاح وتتميز بالحب بين الجيران والتعاون فيما بينهم في السراء والضراء واحترام كبار السن والمبادرة بمساعدتهم في محيط هذه الحارة البسيطة التي هي موضوع حديثنا اليوم.

ونبدأ بكيف كان اليوم في الحارة القديمة والذي يستأنف نشاطه بعد صلاة الفجر ورحلة الآباء الصباحية في إيصال أبنائهم إلى المدارس كل حسب مرحلته الدراسية، ثم يتوجه الآباء لأعمالهم مثل الصيد والتجارة وبناء المنازل والنجارة والحدادة والحجامة والصباغة والجزارة وتجارة المواشي والطيور والبازانات (أماكن توزيع المياه العذبة) والعطارة والحبابة (أماكن طحن الحبوب) والفخارة والخياطة وغيرها من حرف ذاك الزمان، وبعد  صلاة الظهر تبدأ رحلة العودة من المدارس بعودة الطلاب لمنازلهم لتناول أطيب وأشهى المأكولات الحجازية البيتية مثل الصيادية ، السليق ، العيش أبو اللحم ، البامية ، برياني الدجاج ، المبشور، المقادم ، شوربة العدس ، الرز البخاري وغيرها من الأكلات من أيادي أمهاتهم اللاتي قضين معظم أوقاتهن في المركب (أسم المطبخ سابقا) وفي التنظيف والترتيب استعدادا لفترة القيلولة إلى ما قبل صلاة العصر والتي تبدأ معها مرحلة أخرى في اليوم بعودة الآباء لأعمالهم والأمهات للنشاطات النسوية كالأشغال اليدوية القديمة وزراعة نباتات المنزل كالورد والياسمين والفل والريحان، وكي الملابس بمكواة الجمر، وبعض التحضيرات وزيارات الجيران، أما الأبناء فكان الأغلب منهم يتجهز لنشاطات كرة القدم وتمارين الحارة في الساحات الترابية الخالية (الملاعب الترابية) في ذلك الزمان، ودوريات كرة القدم وجمالها التنافسي والذي أذكر منها جمهور الحواري في التفاعل والتشجيع مع كل لعبة أو هجمة أو هدف والتي كانت سببا في ظهور لاعبين دوليين للمنتخب مثل أحمد جميل ومحمد الخليوي (رحمه الله) وطلال الصبحي ومحمد شلية وسراج فريج، وأيضا لعبة الإستغماية (واحد طيش) والطائرات الورقية التي كنا نصنعها بأنفسنا ولعبة المدوان الدوار ومهارات الكيرم الخشبي مع البودرة، والبربر (وهي اللعبة المخصصة لبنات الحارة) وألعاب كثيرة مختلفة كانت تسلي ذلك الجيل الأصيل.

بعد كل هذا النشاط تأتي صلاة المغرب كإنذار للشباب والأطفال في الحي بانتهاء اليوم الرياضي بكافة نشاطاته وضرورة العودة للمنازل استعدادا لحل الواجبات المدرسية والمذاكرة اليومية ومساعدة الأهل وقضاء حوائج المنزل وطلباته قبل صلاة العشاء والتي كانت أخر عهدنا في الخروج من المنزل وانتظار الآباء للعودة من أعمالهم في المساء.

أما التجمع العائلي الذي كان مميزا ويبدأ مع وجبة العشاء ومساعدة البنات لأمهاتهن في إعدادها بشكل فعال ثم بداية حفلة التلفاز مع تناول أكواب الشاي وسماع نشرة أخبار التاسعة ثم المسلسل اليومي الذي كان ينير السهرة العائلية ويشد انتباه الكل بأحداثه اليومية المشوقة وأحيانا المصارعة الحرة مع إبراهيم الراشد للرجال ، حتى الحادية عشرة أو الثانية عشرة بحد أقصى ليخلد بعدها الجميع للنوم مع صفارة العسه الخاص بالحارة والذي كان يحرس الحارة من الأشرار بمجرد عصا في يده، وأذكر أننا في فصل الصيف كنا نفرش (الطراريح) وهي مراتب النوم القطنية في سطح المنزل ونستمتع بنوم هادئ في الهواء الطلق وتحت ضوء القمر ونستخدم في فصل الشتاء الناموسيات (غطاء من الشبك يحمي من البعوض) في حالة انتشار البعوض وذلك للاستعداد ليوم جديد ملئ بالنشاط والحيوية والأمل .

كان لشهر شعبان ميزة عند أهل جدة خاصة ومنطقة الحجاز عامة وهي ما كنا نسميها ” بالشعبنة ” وتعني المخيمات الشبابية التي كان الشباب يقيمونها على البحر للاستمتاع ببداية إجازة المدارس وقبل الدخول في شهر رمضان وكانت غالبا ما تقام في منطقة أبحر الشمالية الحالية على شكل مخيمات لكل حارة مخيم مستقل وكان بعضها من خارج مدينة جدة مثل مكة والمدينة وينبع والطائف ومنطقة الحجاز التي يعشق سكانها هدير البحر وأمواجه الساحرة الجذابة.

يأتي بعدها شهر رمضان والذي يطرأ على برنامجه بعض التغيرات بحكم أنه كان يأتي غالبا في إجازة المدارس حيث كنا نستمتع بلذة الإجازة المدرسية مع ليالي رمضان، والسهر للصباح لأداء صلاة الفجر مع قراءة الورد القرآني اليومي والخلود بعده للنوم، وتأتي بعده فترة الظهيرة التي تبدأ بصلاة الظهر ثم البدء في تأمين الطلبات الرمضانية واحتياجات المنزل حتى صلاة العصر وتبدأ معها حلقات قراءة القرآن والذكر في المسجد إلى الساعة الخامسة ومن ثم التوجه للمنزل لبداية توزيع وتبادل صحون المأكولات الرمضانية بين الجيران مثل اللقيمات والشوربة والفول والسمبوسة والمعجنات الحجازية بأشكالها المختلفة وشراب السوبيا المميز، وأذكر أن والدي رحمة الله عليه كان عندما يرى وجبات مختلفة على سفرة الإفطار يسأل والدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته: من أي منزل هذه ؟ وهو دليل الحب والكرم والمودة بين الجيران في ذلك الوقت.

ومع صلاة العشاء تجد أغلب الرجال والشباب والأطفال وحتى بعض النساء يتوجهون إلى المساجد لأداء صلاة العشاء والقيام، ثم تبدأ بعدها نشاطات ليالي رمضان في محيط الحارة بكرة القدم وغالبا كرة الطائرة التي كانت مشهورة في ليالي رمضان وبعض النشاطات المختلفة مثل الفرفيرة (صندوق لاعبي كرة القدم باليد) والطيرة (وهي سباق الشباب ومحاولة البعض الإمساك بهم) ثم تناول بعض المأكولات الخفيفة مثل الكبدة والبليلة والبطاطس المقلية والترمس وغيرها من المظاهر الشعبية الرمضانية لا تتكرر إلا في شهر رمضان من كل سنة.

بعدها يأتي وقت السحور لتجمع العائلة وإفاقة النائمين لهذه الوجبة المساعدة على الصيام قبل الاستعداد للتوجه لصلاة الفجر، وبداية يوم جديد من أيام رمضان المبارك.

والجدير بالذكر هنا ما كان يقوم به عميد الشباب وعمدة حارتنا القديمة وأخي الأكبر عبد الله السيد من مائدة الإفطار السنوية في رمضان (وحتى يومنا الحالي مازالت هذه العادة السنوية قائمة) حرصا منه على تجمع أهالي الحي لتبادل التهاني والتبريكات بشهر رمضان المبارك والتواصل فيما بينهم البعض لاستمرار المودة والمحبة، مهما بلغت المسافات من بعد والدنيا من مشاغل ثم أصبحت المائدة تضم بعضا من أعضاء الحواري القديمة الأخرى من الأحباب والأصدقاء والأرحام والأقارب، جعلها الله في ميزان حسناته.

بالطبع يأتي العيد بعد كل رمضان وتأتي معه الأفراح والمناسبات في الحارة الجميلة حيث يبدأ بصلاة العيد ولبس كل جديد وفطور يوم العيد المميز بالدبيازة والمقلقل والبيض البلدي والأجبان والشابورة التي توقفنا عنها طيلة شهر رمضان، ثم زيارة الجيران وتذوق حلاوة العيد مثل اللدو وطبطاب الجنة والحلقوم واللوزية وبيض الكوكو وكعك العيد والمعمول الحجازي، مع رائحة العطور والبخور وتبادل التهاني والتبريكات بيوم سعيد ويبدأ التواصل والتجمعات العائلية وفرح الأطفال بالعيديات النقدية والعينية ومظاهر الحب والألفة والتقارب بين سكان الحارة القديمة في جلسات الطرب المسائية في الحارة.

وأذكر هنا أنه كان لإخواننا العرب في الحارة من الجاليات نشاطات جميلة مثل الفرق الجوالة التي تحمل الطبول وبعضها المسجلات الصوتية وتجول في الحواري بالفلكلورات الشعبية لبلدانهم تضامنا وفرحا بقدوم العيد ويتبعهم أطفال الحارة بكل نشاط وسعادة لمشاركتهم أفراحهم والرقص على نغماتهم الجميلة.

ولا أنسى فترة إجازة الحج التي كانت تتميز في حواري جدة أيضا بمخيمات البحر للشباب (مثل الشعبنة) والتي تحث على اعتماد الشباب على أنفسهم والتعاون والتنزه والسباحة وتعلم الطبخ والتنظيف، وهي مسئولية تعاونية مشتركة بين شباب الحارات الجداوية حيث كان لكل حارة مخيم مميز ومستقل، ويتم التزاور بين المخيمات في فترات المساء وممارسة لعبة المزمار الشعبية لأهل الحجاز ومباريات كرة القدم في فترة العصرية بين كل حارة وأخرى على رمال البحر الصافية، وجلسات الطرب الينبعاوي الأصيل في ليالي البحر الساحرة.

قصص جميلة وبرامج متواضعة وتنظيم رائع حسب الإمكانات المتاحة في ذلك الزمان ومجتمع متعاون وبسيط لأبعد الحدود يوضح لنا أن الذكريات شريط جميل لا يفارق خيالنا وبه مواقف مؤثرة تعلمنا منها في الحاضر أن التاريخ الذي عشناه في هذه الحواري المميزة والتي هي أساس مدينة جدة، لا يمكن نسيانه أبدا ويأخذنا الحنين له من وقت لآخر ليبقى ذكرى طيبة في النفوس وتبقى الأرواح متعلقة ببعضها البعض مهما تغيرت المنازل وتباعدت المسافات وطالت الطرق وأختلفت المواصلات وشاخت الوجوه ، ستبقى حارتي في قلبي وعقلي تاريخ أتشرف به وأحن إليه وأشتاق له وللعودة لذلك الزمان الجميل ، حارتي القديمة ” كم اشتقت إليك “.