أوصى معالي إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد المسلمين بتقوى الله وعدم الحزن على الدنيا فعاقبتها الرحيل، والتوكل على الله فهو حسبنا ونعم الوكيل، والاشتغال بذكر الله وبشكره يزدكم من خيره الجزيل، والإكثار من الاستغفار فهو للهم مزيل، والثقة بالله التي ليس لها بديل.

وقال معاليه في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام معاشر المسلمين: بين أيديكم سورة عظيمة ، سورة خالصة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، سورة يسلي فيها الله عز وجل قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ويعده بالخير الكثير ، ويوعد أعداءه بقطع الدابر وبئس المصير ، وهي في الوقت نفسه سورة تمثل حياة المسلم في دينه، ودعوته، وموقفه من أعداء الله، وأعداء دينه، مشيراً إلى أن هذه السورة العظيمة تظهر حفظ الله لعبده ، ورعايتَه له ، وتثبيتَه ، وجميلَ موعوده لنبيه وللمؤمنين ، وعظيمَ وعيده لأعداء الله ، وأعداء رسوله من الظالمين والكافرين، إنها سورة قصيرة بل هي أقصر سورة في كتاب الله ، سورة ما أجملها ، وما أغزر فوائدها ، وما أعظم بـــركاتها.

وأوضح أنها سورة الكوثر هذه السورة الكريمة التي يخاطب الله جل في علاه بها نبيه وخليله، ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الكريم المبهج ، خطاباً يتضمن هذه المنح الربانية ، والعطايا الإلهية ( إنا أعطيناك الكوثر )، والكوثر : نهر في الجنة كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة، بل قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن نهر الكوثر الذي في الجنة هو من جملة الخير الكثير الذي أعطى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان أقلُّ أهل الجنة من له فيها مثلُ الدنيا عشر مرات فما الظن بما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أعده الله له فيها.

وبين إمام وخطيب المسجد الحرام أن الكوثر مأخوذ من الكثرة ، فهو : الكثير ، والغزير ، والفائض ، والدائم غير المقطوع ولا الممنوع و هو الخير الكثير: من القرآن، والحكمة، والنبوة ، والدين ، والحق ، والهدى ، وكلِّ ما فيه سعادة الدنيا والآخرة فهو كوثر لا نهاية لفيضه ، وكوثر لا إحصاءَ لعدده، وكوثر لا حدَّ لدلالاته.

وأشار إلى أن الله أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين : الصلاةِ ، والنسك فالصلاة والنسك هما أجل ما يتقرب به إلى الله فأجلُّ العبادات البدنية الصلاة ، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات ، فالصلاة تتضمن خضوع القلب ، والجوارح ، والتنقل في أنواع العبودية، كما يعرف ذلك أرباب القلوب والهمم العالية والنحر أجل العبادات المالية، وما يجتمع في النحر من إيثار الله، وحسن الظن به، وقوة اليقين ، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمانُ والإخلاصُ، وقد جاء الأمر بالصلاة والنحر معطوفاً بـ (الفاء) الدالة على السببية – كما يقول أهل العلم – فالصلاة والنحر سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله من الكوثر ، والخير الكثير.

وقال الشيخ ابن حميد أيها المسلمون: وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه ، فكان كثير الصلاة حتى تفطرت قدماه ، وكثير النحر حتى نحر بيده ثلاثاً وستين بدنه في حجة الوداع ، وكان ينحر في الأعياد وغيرها.

وأكد أن الله خاطب نبيه إن مبغضك – يا محمد – ، وكارهك ، ومن لا يحبك هو الأبتر : هو الأذل ، المنقطع دابره ، الذي لا عقب له ولا أثر أبتر مقطوع لا يولد له خير ، ولا عمل صالح ، ولا ولد صالح والأبتر هو كل شانئ لمحمد صلى الله عليه وسلم ومبغضه ، وشانئ لهذا الدين ، وشانئ لأتباعه.

وأبان أن آخر هذه السورة العظيمة ، هو الذي يفسر معناها ، ويوضح غايتها ، والمراد منها : فمن شنأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهه ، وكره ماجاء به ، بتره الله من كل خير ، بتر الله ذكره ، وأهله ، وماله ، وخسر دنياه وآخرته ، بتر حياته فلا ينتفع بها ، وبتر قلبه فلا يعي الخير ، ولا يؤهله لمعرفته ، ولا لمحبته بتر أعماله فصرفها عن الطاعة والعمل الصالح ، بتره من الأنصار والأعوان ، وبتره من جميع القرب وأعمال البر ، لا يذوق للإيمان طعماً ، ولا للطاعة حلاوة ، وإن باشرها بظاهر جوارحه ، فقلبه مصروف عنها ومن شنأ وكره بعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّه لأجل هواه ، أو متبوعِه ، أو شيخِه ، أو طائفتِه ، فصار يوثر كلام الناس ، وعلومهم وآراءهم على كلام الله ، وكلام رسوله ، وعلوم القرآن والسنة فهو داخل في هذا .

وحذر إمام وخطيب المسجد الحرام المسلم أن يكره شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو يرده لأجل هواه ، أو انتصاراً لمذهبه ، أو شيخه ، أو حزبه ، أو طائفته ، أو لأجل انشغاله بالدنيا وشهواتها.

وأضاف أن على المسلم أن يلزم السنة والجادة حتى لا يكون أبتر مردوداً عليه عمله ، فالمهلكات ثلاث : اتباع الهوى ، والتعصب للمذهب والجماعة ، والانشغال بالدنيا وشهواتها.

وتابع معاليه قائلاً يا معاشر الأحبة : وفي مقابل هذا البغض والكره والشناءة أعطى المولى عز وجل حبيبه ، ونبيه ، وخليله ، محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأعطى اتباعه ، والصادقين في محبته ، ولزومِ سنته ، أعطاهم هذا الكوثر ، أعطاهم خيري الدنيا والآخرة أعطاهم في الدنيا الهدى ، والنصر ، والتأييد ، وقرة العين ، وابتهاج النفس ، وشرح الصدر ، ونعم القلب بذكر الله ، وحبه ، نعيماً لا يشبهه نعيم في الدنيا كما أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم في الآخرة الوسيلة ، والمقام المحمود ، والحوض المورود ، والشفاعة الكبرى ، وأعطاه لواء الحمد في الموقف العظيم.

وبين أن المسلم حينما يتتبع هذا الكوثر العظيم الذي أعطاه الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ، فهو واجده في النبوة وحفظها ، وفي القرآن الكريم وحفظه ، يجده في حفظ دين الله ، وفي السنة المطهرة ، وفي هذا الانتشار العظيم لدين الإسلام ، والاتباع الذين يزيدون ولا ينقصون ، ويقوون ولا يضعفون ، كلها تلهج بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وبدينه ، تحبه ، وتحوطه ، وتدافع عنه ، وتحفظ دينه ، وكتابه ، وتعظم شريعته لقد أبقى الله ذكره على رؤوس الأشهاد ، وشرعه ، ودينه ، لجميع العباد ، محفوظاً أبد الآباد إلى يوم المعاد ، صلوات الله وسلامه وبركاته الدائمات المتكاثرات إلى يوم التناد .

وفي ختام خطبته أكد إمام وخطيب المسجد الحرام أن مقاييس الله غير مقاييس البشر ، وموازينَ العزيز الكريم ، غير موازين الضعفاء المهازيل، فانظروا حينما قال الكفار وصناديدهم في حق محمد صلى الله عليه وسلم : دعوه فإنه أبتر سيموت بلا عقب ، وينتهي أمره ، فجاءت هذه السورة العظيمة لتبين : أين يكون الانقطاع والامتداد ، وأين يكون الخير ، والفيوض ، وأين موارد النقص ، والهلاك ، والخسران ، وأين ميادين الربح والفوز ، والعلو والتمكين البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون أن مقاييسهم ، ونظرياتهم ، ومعايرهم هي التي تقرر الحقائق ، وتتحكم في مجاري الأمور وأن الدين الحق ، والدعوة إلى الله لا يمكن أن تكون بتراء ، ولا يمكن أن يكون صاحبها أبتر ، بل هي العز والنصر ، والتمكين والرفعة ، في الدنيا والآخرة.