ثلاث مئة وخمسة وستون يوما نركض وراء كل شي! وراء ما هو هام وغير هام وما هو ذو قيمة عالية وذو قيمة منخفضة نركض وراء ما نريد وما لا نريد، إننا نتشتت ونُستنزف و نحتاج فعلا للتوقف لا التوقف الذميم بل التوقف من أجل المزيد! التوقف الذي نعيد من خلاله ترتيب أوراقنا وضبط بوصلتنا إن صح التعبير

لقد تحدث العالم كثيرا عن النجاح وأسراره وعن مبادئه وإستراتيجياته، إلا إنني (حسب إطلاعي) لم أجد أي من المفكرين تناول الإعتكاف، لا من الشرقين ولا من الغربين ربما الغربين لقلة إطلاعهم على تفاصيل تراثنا أما الشرقيين فلربما أنهم يضنون أن الإعتكاف هو ممارسة تعبدية بحتة وذات مردود أخروي فقط، والأمر خلاف ذلك! بل هو ذو مردود دنيوي كبير وثماره يجنيها الفرد في العاجل القريب

الإعتكاف هو: لزوم المسجد لمدة عشرة أيام تنقطع فيها عن العالم الخارجي وتخلوا بنفسك تذكر وتناجي ربك، ولن أتحدث هنا من الناحية الفقهية، لكنني سأتناوله من زاوية الوعي والتنمية الذاتية ولكلُ زاويته

مدته عشرة ليالي، وهي قصيرة مقارنة بعدد أيام العام وفائدته العظيمة

أما مكان الإعتكاف فهو المسجد المخصص للعبادة، وإذا أردت أن تصف المساجد بلغة شرعية فهي أمكان مباركة، وإذا أردت أن تصفها بلغة المشاعر فهي أماكن مريحة وتغمر نفسك فيها السكينة، وإن أردت أن تصفها بلغة الطاقة فهي أماكن ذات طاقة عالية

أما الليالي التي تمثل الزمن المخصص للإعتكاف فهي من أعظم الليالي في العام، وفيها أعظم ليلة التي تتنزل فيها الخيرات والبركات وملائكة السماء

إنه ( الإعتكاف) رحلة روحية فريدة من نوعها تتخفف فيها الروح من متطلبات الجسد والمادية المرهقة فتسرح في ملكوت السماء

في هذه العزلة سوف تجد روحك المفقودة التي غمرتها جداول الأعمال ومتطلبات الحياة

تصور معي، أم تبحث عن طفلها طوال العام ولا تجده، ثم في أول ليلة من ليالي الإعتكاف تجدة مباشرة!! كيف سيكون اللقاء وكيف سيكون العناق والدموع؟! الأمر ذاته سيحدث مع لقاء أرواحنا المفقودة طوال العام

في هذه الليالي تتوقف عجلة الحياة رويدا رويدا وتهدأ النفس ويصفو الذهن وتقوى البصيرة فتبدأ بمشاهدة نفسك من الأعلى و كأنك تشاهد فلما سنمائيا لنفسك خلال العام المنصرم! ستشاهد نفسك تركض هنا وهناك بين أعمال هامة وأخرى روتينة وأخرى ما تدري ماهي! وغيرها من الأمور التي لا تنتهي

سوف تغوص في أعماق نفسك وتتعرف عليها أكثر ستبدأ بالتعرف على الأرباح و الخسائر والتوجهات و ستبدأ بالتفكير بجدية بتغير بعض مسارات الحياة

الإعتاكف سيعيد لك التركيز بشكل أقوى على غاياتك، لأنك مهما كنت محددا ستجبرك الحياة على التشتت والإنحراف

ستخرج من الإعتكاف إنسانا جديدا نظيفا من الداخل وأكثر سلاما وسكينة وتحديدا ووضوحا بل وستكون أكثر إقبالا على الحياة!

إنه بمثابة إعادة الشحن لعام كامل! والتوقف للتقييم و الراحة اللازمة لإنتاج أكبر في العام المقبل

ستخرج من الإعتكاف تسير بسرعة الصاروخ من شدة الوضوح معرفتك بما تريد

عشرة أيام من أجل إنتاج وإبداع عام! يكفيك أن سيد الناجحين عليه أفضل الصلاة والسلام كان يمارسه كل عام