من الظلام يُولد الفجر المضيء؛ أَغْمِضْ عينيك لمدة دقيقة كاملة، جرِّب أن تجعلها دقيقتين أو ثلاث ستشعر باختناق، سيضيق بك هذا الكون الفسيح بكل تأكيد، فما أعظم نعمة البصر!

رهين المحبسين الشاعر العظيم أبو العلاء المعري، عبَّر عن هذا الإحساس ووصفه بالحبس، فعلاً سجن مؤلم؛ لذلك كان جزاء الصابرين ممن فقد بصره الجنة كما في الحديث النبوي، لأن الفقد كبير وكبير جداً.

ولكن الغريب أن الكثير من العميان فقدوا النظر ولم يفقدوا وجهة النظر، وحينما ترى هؤلاء تقول في نفسك «إنما نحن جوقة العميان»، العلامة ابن بازـ رحمه الله ـ مفتى المملكة، تلقى العلم وقد فقد بصره وهو صغير، والشاعر العظيم بشار بن برد أخرج لنا أجمل القصائد وأعذبها من بصيرته وخياله الذي يرى مالا يراه بعض المبصرين، وراوي الأحاديث الشهير البخاري يُقال أنه أعمى، والصحابي الأعمى ابن أم مكتوم نزلت فيه سورة«عبس» معاتبة للرسول العظيم من أجله، والصحابي أبو أحمد بن جحش كان شاعر أعمى يجتمع إليه الناس لحسن حديثه وعظيم حفظه، والشاعر الجاهلي الأعمى دريد بن الصُمَّة كان حكيماً يطلب الناس مشورته، والداعية المصري عبدالحميد كشك ـ رحمه الله ـ ألهم المنابر بخطبه وخطاباته،

وكان أعمى يلتمس طريقه بعصاه، وعميد الأدب العربي طه حسين ـ أول مصري يحصل على الدكتوراة من جامعة السوربون الفرنسية الشهيرة ـ سافر لفرنسا وهو شاب وتلقى العلم وهو أعمى فأتقن اللغة الفرنسية وكان يحفظ القرآن الكريم، وألف عشرات الكتب، والأمثلة كثيرة لعظماء فقدوا بصرهم ولم يفقدوا بصيرتهم، حيث أناروا للعالم طريق العلم والأدب، فهذا الشاعر صالح عبدالقدوسن والشاعر ابن التعاويذي، والشاعر الأغريقي هوميروس (صاحب الإلياذة الشهيرة)، والشاعر الاسكتلندي هاري الأعمى، والموسيقي المصري سيد مكاوي، والملحن المصري عمار الشريعي، والعالم لويس برايل (مخترع كتابة المكفوفين)، والرسام التركي الفقير أشرف أرماغان، وعضو مجلس الشورى الأكاديمي ناصر علي الموسى، والأستاذ أنور النصار (مدير إدارة العوق البصري بالإدارة العامة للتربية الخاصة بوزارة التعليم، ومدير عام جمعية المكفوفين بالرياض، ومؤلف كتاب مهارات حياتية في الإعاقة البصرية).

والأمثلة كثيرة جداً لهؤلاء الذين لم يمنعهم فقدان البصر من تقديم خدمات جليلة للبشرية، كابن سيدة، والعكبري، وزين الدين الآمدي، والرازي وغيرهم من غير العرب.

فقد البصر لم يكن عائقاً يوماً ما عن الإبداع، هؤلاء فقدوا البصر ولكنهم لم يفقدوا البصيرة، ولم يفقدوا الهمة.
فما هو عذرنا ونحن نراهم يتفقون علينا بهذا الإنتاج العلمي المتنوع؟