وجه دائري آدم، وعينان صغيرتان، وأنف يحتل مساحة كبيرة من الوجه مقارنة ببقية الملامح، وترتدي جحاباً يكشف وجهها الذي لونته شمس الصحراء الحارقة بهذا اللون الداكن، كانت تعتمر غطاء رأسها وتربطه كالعمامة، وعاشت جزءاً كبيرا من حياتها في الصحراء بصحبة ابنها وابنتها وقطيع من الضأن والماعز وحمارها وكلبها الأثير، وهذه هي كل حياتها التي تعشقها بعد أن انفصلت عن زوجها وترمّلت فيما بعد، وعشق الصحراء يسري في عروقها، وحب الحيوانات والطيور سمة تميزها عند كل من يعرفها ويسمع بها، وهي تشترك في هذا الشغف مع شقيقها الأكبر الذي حرم من الولد وطلق نساءه الثلاث لهذا السبب وعاش بقية عمره وحيداً يطارد الطيور ويقتفي أثر السحاب والأمطار ولذلك أطلقوا عليه “أبوالطيور”، ولو كان هذا الرجل أوروبيَّاً لربما خصصت له البرامج التلفزيونية فهو يعرف عن الطيور والصقور تحديدا أكثر ما يعرف عن الدرهم والدينار، يتتبعها في وكناتِها، ويعرفُ أسرارها، ولا يكاد يراجعه أحد في معلوماته عنها.

في هذه البيئة البكر عاشت جدتي لأمي وشقيقها أبو الطيور وجماعتها جزءا كبيرا من حياتها التي بدأت قبل العهد السعودي ثم عُمِّرتْ حتى أدركت أوائل عهد الملك فهد – رحمه الله- وتوفيت في مستشفى رفحاء ولم تصب بالسكر ولا الضغط ولا أي مرض معروف رحمها الله وغفر لها ولشقيقها فقد كانا ورعين تقيّين ، يعرفان حق الله في الحيوانات والطيور قبل حق البشر.

في يوم من أيام الربيع الجميلة توقفت سيارة بالقرب من جدتي وهي بجوار أغنامها ، وكانت السيارات قديماً تكاد تكون نادرة جداً، وهي مخصصة لموظفي الحكومة وجُباة الزكاة، كان الرجل الأربعيني ذو اللحية الكثة والثوب الأبيض النظيف يريد ذبيحةً له وللرجال الذين قدموا معه من الرياض ، واتخذوا من قصر الإمارة الطيني مقراً لهم، نظر الرجل لجدتي وهي كاشفه الوجه كعادتها، وسأل عن ثمن الذبيحة، ولكنه لم يعجبه أنها لا تغطي وجهها على ما يعرف من النساء في نجد، فطلب منها أن تُغطي وجهها، فأخبرته أنها وحيدة بين قومِها ولا حاجة لها بذلك؛ لأنها قبيحة لا تلفت نظر الرجال وأنها اعتادت على ذلك لطول مكثها وحيدةً في البر، وبروحها المرحة التي اشتهرت بها، قالت له ذلك وأكدت: إن كنت تريد الشراء تفضَّل وإلا لا تُلهيني عن غنمي، فامتعض من جوابها وغادرها مُغاضباً ولم يشترِ منها احتجاجاً على هيئتها، ولم يَعلم أنها من القواعد من النساء وهي لا تلفتُ نظر الرجال وتعترف بذلك وسط ضحكاتها التي لا تغادرها، فهي متصالحة مع شكلها بدرجة كبيرة جداً، وقد رأيتها في أواخر عمرها فهي نحيلة وقسيمة الملامح ، فلا أدري لماذا يصفونها بالقبح؟!

أتى ابنها الوحيد من غيبته وقد أخبر والدته أنه دعاا ضيوف مركز الإمارة على العشاء، وأن عددهم يقارب الثلاثين، وهو عدد كبير جداً مقارنة بأدواتهم وإمكاناتهم، فأخذت جدتي تستنهض همم نساء القبيلة وتطلب ما عندهن من القدور والحطب، وتطلب مساعدتهن، وكانت ليلة من ليالي رمضان الكريم، وجاء العشاء متأخراً ليكون سحوراً، وكان المكان جميلاً فهو عبارة عن رمال مسيل ماء، افترشه القوم حيث لا فراش ولا مراكي ولا صحون تكفي للتقديم، وكان العشاء مكوناً من لحم الغنم ومن الكمأ ورز التمّن العراقي وحوله الزبد واللبن، وتناول الضيوف ومن معهم السحور وسط أجواء جميلة زادتها سعادة أحاديث الترحيب والفكاهة التي ورثها الابن عن والدته(جدتي)، وبعد أن همَّ رئيس القوم بالمغادرة قال للابن : قُلْ آمين! فقال للابن ممتناً لكرم الضيافة:عسى البطن الذي أنجبك لا يُعرض على النار، فقال أحد المرافقين: هل تعرف المرأة التي تشاجرت معها يوم أمس والتي لا تغطي وجهها؟ هذه أُمُه، كانت إجابة صادمة له، فقد كان يظنُّها متهاونة ومستهترة بدينها، فأخبروه أنها وحيدة طوال عمرها ولم تعتَدْعلى غطاء الوجه، ولكنها كما ترى، تُكرمْ الضيف وتساعد المحتاج وتعرف فروض ربها مثلكم وربما أكثر، فأطرق الرجل مَليّاً وأخذ يكرر لها الدعاء، ثم زارها في الغد معتذراً لها، وكان يخُصُّها بالزيارة كلما سنحت لها الفرصة حتى غادر إلى بلده.

واشتهرت هذه المرأة بزهدها الشديد وتقلُّلِها من الدنيا، وكانت الدولة أعزها الله تُعين أهل المواشي وتدفع لهم ما يكفي للأعلاف، فأتاها أحدهم وسألها عن عدد أغنامها حتى يدفع لها المال المخصص بحسب العدد، وتفاجأ أنها لا تعرف عددها، وقال ضاحكاً لو أخذنا من طرفها هل تفقدينها؟ فأجابته بروحها المرحة التي اُشتهرتْ بها: والله يا وليدي لو تأخذ نصفها ما دريت. فكتب لها شيكاً بستة وعشرين ألفاً، وكانوا يسمونها زكاة، وأخذت الشيك ووضعته في عصابة رأسها ثم ذهبت لشأنها، وأخبرت شقيقها بما حصل وأخذت تبحث عن الشيك فلم تجده، لقد سقط منها دون أن تشعر به، وضحِكتْ على ضياعه كما هي عادتها في التعبير عن المواقف التي تعترضها، وذات موقف باعت غنيمات لها بستة آلاف ريال، وربطتها في شيلتها (غطاء الرأس)، وهي تقوم بأعلاف غنمها؛ فأكلت العنز جزءا من شيلتها والتهمت النقود الورقية دون أن تشعر، وأتى أحد أقاربها وأخبرته بما حدث فاقترح أن يذبح العنز ويستخرج المبلغ من بطنها قبل أن تهضمه، ولكنها رفضت رأفةً بها وحباً لعالمها الذي فضّلته على المال.

سألتني حينما كنتُ أدرس في الرياض عن طريقة مكالمتي لأهلي في رفحاء، وشرحت لها نظام الكبائن الهاتفية المنتشرة وقتذاك، وأخبرتها بالريالات المعدنية (التي كنا نسميها هلل)، وفي اليوم التالي أعطتني صُرَّة من النقود المعدنية لاستخدامها في مكالمة أهلي إذا ذهبت للرياض، فتحت النقود وإذا بها ريالات معدنية مكتوب عليها (ضُرب في الحجاز)، وكانت تعود لعهد المؤسس رحمه الله، ولكونها غير صالحة للمكالمات احتفظت بها كذكرى عندي حتى اليوم اضحك كلما رأيتها وأبكي أحياناً.

هذه هي جدتي ذات الروح المرحة والنكتة الحاضرةرحمها الله بقدر رحمتها لمخلوقاته التي أحبتها وكرّست حياتها لها.