يقول حسن مدن في كتابه الكتابة بحبر أسود أن الكاتبة السنغالية مريم با ترى أن الكتب هي مفتاح التعلم للحياة لما فيها من دروس وتجارب تنير العقول، في حين يرى كافكا أن الحياة بذاتها في حلو مذاقها ومر تجاريها هي الكتاب المفتوح لنا لنتعلم منه فلا يمكننا أن نتحكم في تجربتنا الخاصة من خلال شخص آخر، ثم يبدي المؤلف رأيه قائلاً: “الكتب تعطي المعرفة لكنها لا تعطي التجربة”

وقلتُ: هذا ما ذكرني بما قرأته سابقاً في الفرق بين المدرسة والحياة.. بأن المدرسة تعطيك الروس ثم تختبرك أما الحياة فتعطيك الاختبار ثم الدروس؛ لهذا كان ثمن التعليم في الحياة أقوى أثراً وأجدى نفعاً.. وجرت سنة الحياة وناموس الكون أن الدروس لا تكون إلا بمر التجارب وعمق الألم.. فكم قرأتُ شخصياً من أحداث التاريخ وفجائع الدهر وتقلبات الحياة ومآلات الدول وطبائع البشر وطعنات الغدر إلا أن كل ذلك لم يؤلمني بقدر ما آلمني تغير أعز أصدقائي عليّ ونسيانه للعشرة الطويلة بيننا! فكان لهذا الموقف البسيط أثر أشد علي من كل حوادث هذه الكتب، فهناك كنت أنا مجرد قارئ وهنا أنا من عاش ورأى كما قال جلجامش!

وهذا ما يؤيد ما قلناه في بداية المقال أن الكتب بكل ما فيها لا تعطيك سوى المعرفة أما الحياة فهي ميدان التجارب وامتحان المخابر لهذا تجد من يبدع في نظريات الحياة وسرد قوانينها وسنن عيشها ومآل أحوالها لكنه إن صادف عثرة بسيطة في الحياة ساءت أخلاقه وتغيرت طباعه وضاع علمه وفسد عقله! ولعل هذا ما حل بجان جاك روسو الذي ألف كتاباً عنى بالتربية والأمور الاجتماعية جمعت دورساً نافعة عن التربية وأحوالها إلا أنه بذاته لم ينتفع بها حين صعقته الحياة بمسؤولياتها وتبعانها لهذا أرسل أولاده الخمسة لأحدى ملاجئ الأيتام! فما ألفه نظرياً من معرفة عجز عن تطبيقه عملياً في ميدان الحياة.

وكم أبدع ابن الجوزي في كتاببه صيد الخاطر والمدهش من ذكر التأملات البديعة وسرد الحكم اللطيفة في سورة يوسف وكيف أن نبي الله يوسف حين آثر ضيق السجن على الشهوات عوضه الله بخزائن الأرض بكبرها ومثل ذلك من التأملات والحكم، إلا أن ابن الجوزي حين سُجن في واسط مكث مدة يختم القرآن في كل يوم ختمة، ولم يستطع فيها أن يقرأ سورة يوسف حزناً على فراق ولده يوسف.. وهو بذاته الذي كان يستخلص منها معاني الصبر وعظيم التأملات، لتدرك أن عمق الألم أحياناً يطغى على كل علم وحكمة.. ونعوذ بالله أن نرى وإياكم والمسلمين ألماً ينسينا أملاً ويغفلنا علماً

وحتى لا أدعي المثالية فقد قلت لأهلي قبل فترة لو أني طبقت ما في كتابي محطة كتب من حكم ومواعظ وتحفيز للذات في حياتي لانتفعت بها أكثر من غيري.. ولكن للحق أقولها الكل منا يجيد المثالية ويدعي الحكمة ويعرف من الحياة ما يعرف.. إلا أن الحياة تأبى إلا أن تعطينا دروسها تجربة وممارسة.. حتى تنقش الحكمة فينا من مجرد معرفة إلى صورة روح تتجسد إلى درس يسري في حياتك.