في معجم الأدباء الحموي عن عبد الله بن المبارك أنه يقول ضل النصارى وكفروا بتشديدة واحدة خففوها حين قرأوا في كتبهم قولاً منسوباً لله سبحانه: يا عيسى إني ولدتّك من عذراء بتول (أي جعلتك تلد من عذراء) فأثاروا النصارى الشبهة على أنفسهم وأوّلوا الكلام في (ولدتك) على أن معناها عيسى ولد الله – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وهنا تدرك أن شبهات العقل أخطر على المرء من كل شهوات الجسد فالشهوة قد تقتضي الإقرار بالذنب أما الشبهة فإن الغالب عليها إيمان العقل وتسلميه بها.. فيغير بها الإنسان دينه ويفسد عقله ويسيىء خُلقه ويبيع وطنه وهو يظن أنه يحسن صنعاً!

والمأمون كان ذا خلق رفيع وعلم جليل وكان حليماً كريماً وبلغ من حسن خلقه أنه يقول: أخشى ألا يجازيني الله على حلمي وعفوي بأنها صارت عادة لا عبادة من كثر ما كان يعفو عن الناس وعمن يسيىء إليه، وروي في ثمرات الأوراق للحموي أن القاضي يحيى بن أكثم يقول: نمت يوماً عند المأمون، فأصابه العطش فامنتع ٱن يصيح وينادي غلامه مخافة أن يزعجني ويوقظني – ولم يعلم أني مستيقظ – فرأيته يقوم ويمشي على أطراف أصابعه حتى وصل موضع الماء فشرب وعاد على أطراف أصابعه!

الغريب أن هذا المأمون الذي يخشى أن يزعج نائماً بصوته وخطواته هو ذاته من أمر بالإمام أحمد بن حنبل أن يُساق إليه بالأغلال لأنه لم يقر بما قالته المعتزلة بأن القرآن مخلوق وليس بمنزل.. فانظر كيف أفسدت الشبهة أخلاقه فصار يرى تعذيبه وسجنه لابن حنبل تقرباً من الله وخيراً وهدى!

وكان الخوارج أهل صلاة وقيام وتعبد ومع ذلك كانوا هم أنفسهم أبعد الناس عن دين الله، وما كانت عبادتهم عليهم إلا وبالاً وخسراناً.. وفي كتاب لطائف الفوائد للخثلان أن عمران بن حطان كان عالماً فقيهاً محدثاً فرأى يوماً امرأة جميلة وكانت على مذهب الخوارج فأعجب بها فأراد الزواج منها لصرفها عن هذا المذهب الفاسد؛ لكنها ما لبثت أن أثرت على عقله وجعلته خارجياً، بل إن هذا الخبيث قبحه الله صار يمدح أشقى هذه الأمة عبد الرحمن بن ملجم في قتله لسيدنا علي رضي الله عنه بقوله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا لبيلغ من ذي العرش رضوانا!

وفي كتاب الأذكياء لابن الجوزي ٱن واصل بن عطاء خرج في سفر هو وصحب له فاعترض طريقهم جيش من الخوارج فظنوا الهلاك منهم، فاحتال واصل حيلة ومضى إليهم وقال: نحن قوم من المشركين جئنا إليكم لنسمع كلام الله وننظر فيه.. فقرأ الخوارج عليهم القرآن ثم قال لهم واصل: قد سمعنا كلام الله فأبلغونا مأمنا حتى ننظر في أمرنا ونفكر في هذا الدين، فقال الخوارج: لكم ذلك ومضوا لغيرهم من المسلمين ليحاربوهم!

ومثل ذلك أيضاً ما كان للخوارج أنهم مروا يوماً على مزرعة رجل ذمي من أهل الكتاب فاشتهوا ثمرة فيه فقال بعضهم لبعض لا يحل لنا أخذه فتركوا قطف الثمرة خوفاً من الذنب.. ثم مروا على عبد الله ابن الصحابي خباب بن الأرت رضي الله عنه فرأوا القرآن في يده فقالوا هذا القرآن يأمرنا بقتلك فقتلوه ثم مروا على جارية له وهي حبلى فبقروا بطنها!! وكفى بهذا المشهد الأخير من عظة وعبرة لشر الشبهات وآفتها وسوء أثرها وعاقبتها