قبل مدة كنت أخبر أهلي أني لو كنت ذا شهرة لما فكرت ولا رغبت أن أنشئ صفحة في مواقع التواصل.. فالمغزى مِن أغلب مَن يفتح صفحاته في هذه المواقع أنه يريد – شاء أم أبى – إظهار نفسه وإبداء علمه وجولة قلمه وصولة رأيه في رحاب هذه المواقع؛ وأما من طالته الشهرة وذياع الصيت فلماذا يدخل نفسه في هذا العالم ليسمع فيه (أحياناً) أو ربما (غالباً) قليلاً مما يسره وكثيراً مما يسؤوه!

والحق أقول أني مؤمن بادئ ذي بدء إن العقول مهما بدت وتجلت فمحال أن تتساوى جميعاً وتتفق في كل الأراء، إلا أني بالمقابل أؤمن أن القلوب في الغالب تحمل صفاءً ورقة لا تدركه العقول، فيغشى القلب فيها من الرحمة ما يغشاه، ويلم به الحزن من كل جهة إن رأى دمعة طفل وبكاء أرملة وسقوط رجل في ويلات انفجار أضحت كحرب شعواء.. ولعل حادثة بيروت بالأمس أكدت لي هذا الأمر وجلت لي بعضاً من أشباه هذه النماذج في مواقع التواصل التي حملت في باطنها القسوة فجاءها المخاض فولدت كرهاً وربَت ونمت حقداً وجهلاً حتى ماتت قلباً وإنسانية!

فلا معنى للقلب ولا مسمى إن خلا من المشاعر وإن مات فيه الإحساس.. أحدهم ينشر خبراً عن هدم كنيسة وموت قس فيها، فترى بعض التعليقات التي فرحت بموته وهدم كنيسته! وآخر ينشر صورة عن فتاة مفقودة وبدا في الصورة بعضاً من تبرجها فيعلق أحدهم بكل برود “إن شاء الله ماتت”..!!

ألهذه الدرجة بلغت القلوب وهزلت العقول وشاهت الوجوه وماتت كل معاني الإنسانية حتى شبعت موتاً..!! بل حتى الحجارة قد مُدحت في القرآن بنفعها حين قُرنت بتلك القلوب القاسية.. فلعل الحجارة تتفجر منها الأنهار وأما تلك القلوب فلا النهر الجارف يصدع قسوتها ولا دمعة الطفل تذكي مشاعرها.. ووالله إن المرء ليحزن على حيوان في صحراء يُقتل بلا سبب فكيف الشماتة بإنسان شاركته الروح والدم يُقتل بريئاً بلا ذنب وجرم! بل والله لو كان أجرم من في الأرض لما سرنا موته بهذه الطريقة غدراً!

من حقك أن تختلف في أرائك مع الناس من حقك أن لا ترضى بما يرضاه غيرك من حقك أن تنزعج إن لمحت عيناك ما لا يسرك.. لكن لا وألف لا أن تشمت وتعيب وتستحقر وتجرح وتتكبر وأنت تراب لولا رحمة ربك لكنت نسياً منسياً، فاللهم لا تعذبنا بما فعل السفهاء منا..

ويا ليت أمثال هؤلاء سفهاء العقول قساة القلوب يقرؤوا في السيرة والتاريخ عن رحمة نبينا عليه الصلاة والسلام للناس مسلمهم وكافرهم، ويقرؤوا عن صحابة نبينا وآله رضي الله عنهم ورحمتهم وحسن خلقهم حتى مع من خالفهم وعاداهم.. فليقرؤوا كيف حزن عمر رضي الله عنه على الشيخ اليهودي حين رآه يسأل الناس ليدفع الدية فقال والله ما أنصفناك أخذنا منك الدية في شبابك وفي هرمك، فعفا عنه بل زاد عليه أن أعطاه مالاً ونفقة.. وعلي رضي الله عنه يُسرق درعه من يهودي وهو خليفة المسلمين وحاكمهم فلا يحاكمه بالقوة بل يشرع للقضاء فيحكم القاضي لليهودي على صهر رسول الله لأن شهادة الابن لا تُقبل، فليقرؤوا عن صلاح الدين وكيف احترم النصارى وأكرمهم ولم يهن الكنائس رغم انتصاره المبين عليهم، فليتأملوا أي أخلاق وأي رقي وأي سمو كنا فيه بعقولنا وقلوبنا، ثم ليعلموا ويوقنوا أن ديننا دين السلام.. والله الهادي إلى سواء السبيل