يقول الشعراوي رحمه الله في دروسه “إن في المنع من الله عطاء” فكل ما يأتيك وكل ما تُحرم منه هو في ذاته عطاء من الله لك، كانت هذه الكلمات تتردد على مسامعي وكأنها صوت ملائكي من وحي السماء جعلتني أبصر كل ما لدي بعين الرضا بل جعلتني أفرح حتى بما لم أنله لأني موقن أن الله سبحانه لم يمنع عني ما أريده إلا ليرضيني بما أحبه ولسان الحال يقول “ربّ خير لم تنله كان شراً لو أتاك”

ومن تأمل قصة موسى مع الخضر عليهما السلام أدرك معنى العطاء في كل فصل من فصول قصتهما فما حُرم أصحاب السفينة من سلامة سفينتهم حين خُرقت إلا لينجوا من بطش الملك وظلمه فكانت العيوب بذاتها هي صورة الكمال لهم، وما حُرم الأبوان من ابنهما إلا لحفظهما من شقوته مستقبلاً؛ لأنه قد قُدر أنه لو عاش فإن منقلب حاله إلى الكفر رغم إيمان والديه فكان الحرمان منه عطاءً لهما؛ وقد رُوي في تفسير ابن كثير قول قتادة “قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قُتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما بكفره، فليرض امرؤ بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب” ومن ثم كان الفقر للغلامين تمهيداً للغنى فما أعجزهما عن إصلاح الجدار إلا ليكون ذلك حفظاً للكنز إذا كبرا، فانظر كم حملت هذه الأحزان وكم خفت هذه العيوب وكم طوت هذه الابتلاءات من جزيل العطايا في ثناياها.

فما قضى الله قضاءً للعبد إلا كان خيراً له في أمر دينه وعاقبة دنياه، لكن لا يُلقاها ويدركها إلا من كان له قلب أبصره الله بعينيه نفحة من نفحات الغيب في سمو معانيها وجلال حسنها حتى تنسج النفس بذاتها ولذاتها ثوب السعادة من حرير الرضا.. وفي كتاب حياة الرافعي للعريان أن سامي ابن الرافعي أراد الزواج من ابنة خاله وكان أبوه رافضاً لهذا الزواج لكنه لم يشأ أن يقف حائلاً أمام رغبته وهوى نفسه فوافقه على غير رغبة حتى كان للابن ما أراد، فلما عقد عليها أصابها ما يشبه الالتهاب الرئوي الحاد فأحال بينه وبينها فظلت مريضة حبيسة تعبها، وصادف أن افتقر أبوها إبان مرضها فقام زوجها سامي على نفقة علاجها وكان حريصاً على تطبيبها ورعايتها حتى ماتت بعد سنتين قبل أن يهنأ بها أو حتى يدخل عليها! فكان الرافعي يفكر طوال ذلك الوقت أن في هذا الزواج حكمة خافية ونفحة رحمانية سيقت لابنه ليبقى مصراً على رأيه في الزواج منها رغم الاعتراض الذي جاءه؛ إلا كأنه قد أُرسل ليؤدي هذا الواجب المقدر عليه في العناية بها، وكيف أن لطف الله سيق لهذه الفتاة بأن تتزوج ممن يخاف الله فيها ويرعاها ليكون بعطفه رحمة لها وتكون بحالها أجراً له!

وبالمقابل قد تجد من لم يرضَ بما يمكله وبما قُدر عليه فيعيش مفتقراً للسعادة راغباً إليها وهو الساكن فيها والراعي لحماها.. ومن لا يعرف مثلاً قصة الشاعر ابن زريق البغدادي الذي أحب زوجته كثيراً وبادلته الحب ضِعْفاً، لكن سوء الحال وكبر الأماني وافتقار الرضا اضطرته إلى السفر للأندلس رغم نصيحة زوجته وإلحاحها بالبقاء والرضا بحالهم.. لكنه أبى الاستماع ورحل يبتغي سعادة فوق السعادة ويرجو غنى غير غناه يعوضه عن فقره فلم يجنِ إلا فقر آماله فمات غماً وكمداً! وقال قصيدته العينية الشهيرة.. لا تعذليه فإن العذل يولعه!

ولم يستوعب ابن زريق إلا متأخراً أنه كان غنياً بحبه غارقاً في سعادته.. وكانت حياة فقره في صحبة قمره أبهى من كل صور اللذات ومعاني الترف حتى قال في قصيدته:

استَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

فتأمل وصفه كيف أنه رُزق مُلكاً لم يحسن سياسته حتى خُلع من ملك السعادة الحقيقية في البحث عن السعادة الزائفة.. ومع ذلك يمكنني القول أنه حتى في هذه المأساة لابن زريق فإن معاني الخير طُويت في صفحاتها؛ فلو لم يتعنى ابن زريق وعثاء السفر وضيق الحال وكآبة الفراق ولوم النفس لما أخرج لنا هذه القصيدة الباذخة في جمالها وهذه التحفة البديعة في حسنها والتي لا يُعرف عنه من القصائد غيرها، لتبقى قصته وقصيدته كأحاديث نفس ذاعت من وحي الجمال فانساقت خالدة في صفحات الأدب، فما مر قارئ بها ولا انبهر منها سامع إلا أشفق على قصته ورحم حاله فدعا له بالرحمة، فإن مات ابن زريق وحيداً فقد شيّع قصته الآلاف.. فسبحان من بيده الخير في كل نفحات قدره ورحمات غيبه.