ازدحم الربع الأول من القرن الواحد والعشرين في الألفية الثالثة بصراعات متعددة تهدد الأمن الإنساني في أغلب المجالات، وقد يكون لكل من تلك الصراعات منافذ مضيئة تقلل من مخاطرها وتأخذ بيدها إلى بر الأمان، لكن عندما تتجاوز تلك الصراعات حدود نطاقها لتَنشأ في عملة واحدة لا تقبل الصراع أو الانفكاك عن قيمتها المشتركة يكون خطر تلك الصراعات أكبر من منافذ النجاة.

حين تلتقي المهارات والشهادات كخصمان في ميدان القوى البشرية فذلك إيذان ببداية النهاية لكل من الطرفين قبل نشوب حربهما، وتهديداً لزوال سلطتهما التي بها تستقيم الحياة الحضارية.

ولعل ما ضجت به الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي بشأن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 26 يونيو2020 القاضي بتفضيل المهارة على الشهادة في التوظيف زاد من تضخم تلك الصراعات الناشئة، وتلاففته الآراء والأقلام بشغف ما بين مؤيد ومعارض دون الوعي الكامل بمضامين تلك القرارات أو اغراضها؛ فثقافة المجتمعات وقوانينها تختلف من منطقة لأخرى؛ وتخضع بعض القرارات لظروف طارئة تستدعي مقاومة تحدياتها، ولا يعني ذلك أنها صالحة لكل زمان ومكان؛
المهارات بأنواعها تعني رحلة من التعلم لاكتسابها، وحتى لو كانت تلك المهارات موهبة بالفطرة فالتعلم فرصة لتنامي تلك المهارات، وهي تخضع في رحلتها لعملية قياس وتقويم بشكل مستمر منتهية بشهادة توثق تمامها وتحقق مصداقية التعلم؛
الشهادة تظل دليل قاطع على وجود المهارة، أما ما يحدد جودة المهارة وكفاءتها فهي الممارسات التي لن تتحقق إلا بوجود فرص وظيفية قد تكون هي الحلقة المفقودة في صراع المهارات والشهادات، فلا نجهل أن الفرص الوظيفية في أي قطاع تخضع لمفاضلات وتتأثر نتائجها في كثير من الأحيان باستقلالية قرار صاحب الصلاحية، فماذا لو أصبح التوظيف بلا شهادات على الاطلاق؟
سنتخلص من معضلة شهادات الدرجات العلمية ونعيد بناء الشللية والحزبية التي ستحول مقرات العمل لتكتلات عنصرية غير مضمونة التأهيل تسلب ممن ثابروا واجتهدوا وأنفقوا على طلب العلم والمعرفة حق الممارسة، إضافة إلى احباط دوافع التعلم والتنمية البشرية التي تنادي بها المجتمعات المتقدمة؛ ناهيك ان كثير ممن حصلوا على شهادات الدرجات العلمية لم يتمكنوا حتى الآن من الحصول على الوظائف المستحقة لشهاداتهم بحجة عدم توفر مقاعد شاغرة، فكيف لهؤلاء أن يستثمروا مهارات تلك السنوات الدراسية دون ممارسات فعلية؟
الاتجاهات العالمية حول دعم المهارات لا تعني نفي الشهادات، بل هي وسيلة لمن لم يتمكنوا من الحصول على شهادات علمية للمساهمة في سوق العمل بشهادات مهنية تزيد من فرص معيشتهم ودعم قدراتهم الإبداعية؛

مسك الختام:
المهارات والشهادات وجهان لعملة واحدة “متساوية في القوة ومتوازية في الاتجاه” الصراع بينهما يعني ضياع الفرص الاستثمارية للقوى البشرية وأول خطوات في الاتجاه المعاكس لمسار التنمية المستدامة، هي فقط تستغيث بالفرص المناسبة.