يقول الكاتب محمد الرطيان: ‏بإمكانك أن تدور العالم دون أن تخرج من بيتك! بإمكانك أن تشعر بصقيع موسكو وتشم رائحة زهور أمستردام

وروائح التوابل الهندية في بومباي

وتتجاذب أطراف الحديث مع حكيم صيني عاش في القرن الثاني قبل الميلاد! بإمكانك أن تفعل كل هذا عبر شيء واحد هو القراءة.. وأيم الله فقد صدق.. فقد رحلت بعقلي وسموت بنفسي ورحلت عبر الزمان والمكان في رحلة أدبية سامرت فيها محمد سعيد العريان وهو يتكلم عن أستاذه الرافعي في كتابه الأدبي الفخم “حياة الرافعي” فعاصرت معه الأدباء وعايشتهم وسمعت منهم وقرأت عنهم.

‏والغريب أن تأليف هذا الكتاب كان جراء خلاف نشب في أخر أيام الرافعي بينه وبين وتلميذه محمد العريان.. فمرت شهور على هذا الحال حتى وصل إلى مسامع العريان نبأ رحيل الرافعي.. فأظلمت الدنيا في عينيه فقرر أن يؤلف كتابه حياة الرافعي تخليداً لذكراه ووفاءً لما كان بينهما من عظيم ود وسمو أدب ومعاني حب سمت بين أديب وتلميذه.

وعشت في هذا الكتاب مع الرافعي تفاصيل حياته ومغامرات أدبه وخلجات شعوره ووحي قلمه وجنبات كتبه بل إني خالطت الرافعي حياة الموظف في المحكمة وكيف كان نبيلاً مع زملائه يساعدهم في أعمالهم ويتحمل أخطاءهم وكيف كان مع ذلك النبل معتداً بنفسه لا يأبه لأحد ولايكترث لمسؤول! حتى أن مفتش الوزارة حين يطلبه ليأتي إليه يرفض الرافعي ويطلبه هو ليأت بنفسه إلى مكتبه.. وحين يأتي يقول له ” قل لهم في الوزارة إن كانت وظيفتي هنا للعمل فليؤاخذونيو بالتقصير والخطأ فيما يُسند إلي من عمل وإن كانت الوظيفة تعال في الساعة الثامنة واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل حتى يحين موعد الإنصراف فلا علي إن تمردت على هذا التعبد”

ثم عرفت ذكاء الرافعي حين ابتكر طريقة دعائية ليضع نفسه في واجهة الشعراء والأدباء في زمنه حين أرسل – بعد إصدار ديوانه الأول – لمجلة الثريا عام 1905م مقالة لم يُعرف فيها عن نفسه وانتقد فيها شعراء عصرهم ورتبهم في طبقات وأدخل نفسه بينهم وانتقد نفسه معهم وهذا كله وعمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين! فقد سبق الرافعي عصره بذكائه واجتاز أدباء زمانه بشعره ووحي قلمه.

حتى أنه لما أرسل قبل ذلك عام 1903م ديوانه الأول للشيخ إبراهيم اليازجي وكتب فيه مقدمة عجيبة فصل فيها معنى الشعر وفنونه ومذاهبه.. لم يرد اليازجي عليها بأي رد طوال أسبوعين حتى يتيقن ممن كتب هذه المقدمة البليغة لأنه شك أن هناك رجلاً يملك هذه الموهبة الفذة في الكتابة.. فلما قيل له بأن هذه المقدمة من كتابة الرافعي! قال كيف استطاع هذا الشيخ كتابة هذا الكلام العجيب! فقيل له هذا الشاعر ليس شيخاً بل هو شاب لم يبلغ الثالثة والعشرين!

وعرفت في هذا الكتاب كيف كانت طقوس الرافعي في الكتابة حين قال محمد العريان: لا أعرف على وجه التحديد من هو شيخ الرافعي في الأدب وأكبر ظني أن الرافعي نفسه لا يعرف شيخه في الأدب والإنشاء من كثر ما كان يقرأ في الكتب فقد كان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يدخله فيها ملل من القراءة ولا كلل، وكان معجباً بالجاحظ والأصفهاني وكان حين يهم بالكتابة وينتهي من جمع أفكاره في عقله يشرع لكتاب الأغاني أو كتب الجاحظ ويتصفحهما ليعيش في عالم عربي فصيح قبل دخوله لعالمه فيجمع أدب ذلك الزمان البليغ بأدبه الرافعي الخاص.

ويردف العريان أنه سمع الرافعي ذات مرة يقول: إن كلمة قرأتها لفتكور هيجو كان لها أثر بالغ في أسلوبي الأدبي الذي اصطعنته لنفسي، وكان ذلك حين قال فرح أنطون إن لهوجو تعبيراً يعجب الفرنيسون فقد كان يقول واصفاً السماء ذات صباح (وأصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة) فقال الرافعي: فأعجبني بساطة التعبير وسهولة المعنى فكان ذلك حذوي في الإنشاء! ومن يقرأ كتب الرافعي يدرك أن ذلك التعببر في الوصف قد امتلأت به كتب الرافعي ومقالاته..

وأخيراً أقول إن في قراءة هذه الكتب والسير الذاتية متعة وحياة تعايش بها هؤلاء العظماء وتجمع فيها شيئاً من عقولهم إلى عقلك فتضفي بها إلى نفسك صورة من وحي الجمال ومعنى من سحر الأدب.. بل أذكر هنا ما قاله ابن الجوزي‏ في ‎كتابه الأذكياء حين قال أن رؤية العقلاء ومخالطتهم وسماع أخبارهم تفيد ذا العقل وتزيد من حكمته ولسان الحال يقول:
فاتني أن أرى الديار بطرفي
فلعلي أعي الديار بسمعي