في عصر الأربعاء غرّة شعبان ١٤٤١هـ ودّع والدي وقرّة عيني الشيخ صالح بن عبدالله الجريش هذه الدنيا بعد أن فاضت روحه الطاهرة بكل هدوء وسكينة، ظهرت علينا آثار هذه السكينة والهدوء وهو أمام أعيننا يودّع الدنيا وذلك بالرضا التام ونزول السكينة في قلوبنا مقابل عِظم المصيبة والفقد ، وهذه بشارة وعلامة خير صوّرها لنا النبي ﷺ في خروج الروح للمؤمن حين قال: “إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ – عَلَيْهِ السَّلَام – حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ”، قَالَ: “فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ”، قَالَ:”فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ – يَعْنِي بِهَا – عَلَى مَلَأٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ: اللَّهُ – عَزَّ وَجَلَّ – اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى” قَالَ: “فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟.. الحديث.” ١ ، ونحسب أن روح أبي الطاهرة خرجت تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، وهذا هو العزاء والسلوان لنا فلله الحمد على ما قدّر ولطف.

ودّع أبي -رحمه الله- الدنيا بعد حياة حافلة بالعلم والتعليم والمعروف والجود والبذل والعطاء، بدأها بالدراسة النظامية وتخرجه من المعهد العلمي ببريدة، ثم التحاقه بكلية الشريعة ودراسته بعد ذلك بالمعهد العالي للقضاء والأزهر الشريف ونال شهادة عُليا فيهما، تتلمذ في مراحل التعليم جميعها على ثُلّة من العلماء الأكابر يطول المقام بذكرهم وعدّهم.
أما عن مسيرته بالتعليم والعمل الحكومي فكانت البداية بالتدريس بالمعاهد العلمية ثم إدارته وتأسيسه لجملة من المعاهد العلمية بالمملكة بمصاحبة الشيخ عبدالعزيز المسند -رحمه الله- والشيخ عبدالله بن عبدالمحسن التركي -حفظه الله- ، ثم انتقل بعدها لرئاسة تعليم البنات حتى عُيِّن مديرًا لتعليم البنات بمنطقة عسير فاعتذر منها ليعمل مستشاراً لرئيس مصلحة الجمارك السعودية بداية إنشائها، وعندها تنتهي رحلته الوظيفية بعد خدمة إحدى عشرة سنة في العمل الحكومي ليتفرغ بعدها للاشتغال بالتجارة والعمل الحرّ إلى آخر حياته -رحمه الله-.

سخّر أبي حياته لنا كأي أب ووضع بصمات ظاهرة لا تنسى في تربيتنا، ومما أذكر :
-كان ينتقي لنا من الألقاب أجملها في صغرنا تيمنًا بأن يكون لتلك الألقاب نصيب في مستقبل حياتنا، من ذلك: كان يطلق على أخي عبداللطيف لقب الدكتور في صغره -قبل سن المدرسة- وأطلق عليّ أنا لقب الشيخ ولا ينادينا إلا بهذه الألقاب، بل ويأمر الأخوة العاملين لدينا بأن يسمّونا بها.
-كان يعترضنا ونحن صغار بعض الضعفة والمحتاجين فيُخرج والدي -رحمه الله- ما بجيبه من ميسور المال فيقسمه بيني وإخواتي ويأمرنا بإعطائه ذلك المحتاج ؛ فكم من الدروس صنع بهذا الفعل.
-يسّر الله لي حفظ كتاب الله في مقتبل عمري فكان والدي -غفر الله له ورحمه- لا يقدّم للإمامة سواي، وقد نكون بمجمع من الأقارب في نزهة عائلية فيطلب مني أن أتقدّم للصلاة بهم رغم صغر سني، بل ويطلب مني أن أصلي بالناس إذا غاب الإمام في مسجد حيّنا، وأذكر أني تأخرت عن الصلاة بمسجدنا فصلّى أبي بهم إمامًا، فلما رآني متأخرًا عاتبني بقوله “لا يليق بك حافظًا للقرآن وتتأخر ولا تبادر لتصلي بنا”، بعد هذه المواقف والأحداث التي صنعها والدي أحببت الإمامة بالناس وتعلقت بها، فأسأل الله أن يجعل ما قدمته بالإمامة والخطابة خالصًا لوجهه الكريم وأن يكون بميزان حسنات والدي، فهو من صنعه و نمّاه وحببه في نفسي .

أما عن الجود والكرم والعطاء في حياة أبي فحدّث ولا حرج ، يشهد له القاصي والداني والبعيد قبل القريب، فوالله لا أذكر أحدًا صلّى بجواره وسلّم عليه -ولو كان عابر سبيل- أو أحدًا قابله في مكان عام أو خاص إلا دعاه وأكرمه، وبعد إكرامه لضيوفه يودعهم بهذه العبارة “اخلفوها علينا ” ومعناها كرروا الزيارة لنا مرة أخرى، فكان -رحمه الله- مجلسه عامرًا وبابه مفتوحًا يحضره الكبير والصغير والغني والفقير، تجد السعادة والبهجة بإكرامه لهم وحضورهم مجلسه ووليمته، ومن ذلك أني كنت أدعو بعض الرفاق والأصحاب لمنزلنا، فإذا علم حضر وجلس معنا وسُرَّ بذلك، بل كان يشكرنا على هذا الفعل ويقول: “الكرم هو الذي يصنع الرجال”.
ومما عُرف من كرمه -رحمه الله- تلك العادة السنوية التي يجمع فيها قرابته وذوي رحِمه، فتجد أسعد أيامه ذلك اليوم الذي يجمعهم ويكرمهم فيه.
ومن عطائه وجوده أنه خصص جائزة لأبناء أسرة (الجريش) تحفيزًا وتشجيعًا لهم، سُمّيت جائزة الشيخ صالح بن عبدالله الجريش للتفوق العلمي والدراسي وحفظ القرآن الكريم، كما وضع برنامجًا لمساعدة الشباب على الزواج وتقديم المعونة لهم، وصدق الشاعر الذي يقول:
إن الصنائع في الكرام ودائع
تبقى ولو فني الزمان بأسره
رحمك الله يا سخي النفس والمال وأعلى منزلتك وأعاننا على إكمال مسيرة الجود والعطاء التي بدأتها.

وُهِب أبي حب المعروف والسعي في حاجة وخدمة الناس للقريب والبعيد إيمانًا بأن قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم من أعظم أعمال البر مصداقًا لقوله سبحانه وتعالى : ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾٢
بل كان يتمثل قول الحسن بن سهل رحمه الله:
فُرِضت عليّ زكاةُ ما ملَكت يدي
وزكاةُ جاهي أن أُعين وأَشفعا
فإذا ملَكتَ فجُدْ فإن لم تَسْتطعْ
فاجهَدْ بوسعِك كلِّه أن تَنفعا
كنت إذا رأيته في الصباح حاملًا مشلحه -بشته- عرفت أنه ذاهب لمقابلة أمير أو وزير أو مسؤول للشفاعة و بذل الخدمة، ساعيًا بذلك للقريب والبعيد والغني و الفقير والقوي والضعيف، ومما يشهد على ذلك أنّي وإخوتي نقابل أناسًا لا نعرفهم فيسألوننا عن أبي -رحمه الله- ثم يذكرون أن لوالدنا فضل بعد الله بشفاعة أو حاجة أو خدمة أو معروف قدّمه لهم ، روى ابن أبي الدنيا والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)٣، فاللهم إن أبي يحب نفع الناس وخدمتهم فاجعله ممن تحبهم كما أخبر الصادق المصدوق ﷺ.

أما أعمال البر والبذل والخير والإحسان فلست أنا من يشهد بها؛ بل يشهد عليها الأيتام والأرامل والفقراء والمساكين، ذكر لنا جمعٌ ممن قدّم العزاء فيه أنه -رحمه الله- كان بيتًا يأوي إليه كثير من الأيتام والأرامل والمساكين وأن فقدهم له أشد من فقد أبنائه ومحبيه.
كنت وأخوتي نصحب والدي كبارًا وصغارًا إلى مقر عمله الذي يدير فيه تجارته، فكان من يستقبله يوميًا عند مدخل المبنى هم المحتاجون ينتظرون إحسانه وعطاءه لهم، فإذا دخل مكتبه أمر الموظفين عنده بإعطائهم حاجتهم، وكان أحيانًا وهو جالس على المكتب يسمع من بعيد صوت جدال موظفه مع أحد المحتاجين فينادي ذلك الموظف ويعاتبه ويأمره بعدم نهر السائل أو الإساءة إليه.
وقد آتيه وإخوتي نطلب منه دعم أعمال الخير أو حلقات تحفيظ القرآن ونحوها من أعمال البر فكان يقول: “اكتب المبلغ الذي تحتاجون وناولني الشيك للتوقيع” وقصده بذلك: اكتب المبلغ المراد أيًّا كانت القيمة.
كان -رحمه الله- يطلب منّا أن نجعل أبواب استراحتنا بالرياض مفتوحة لمناشط حلقات تحفيظ وتعليم القرآن الكريم، وكم هي سعادته بتوفير اللازم لتلك المناشط والبرامج .
بل من أعمال الخير و البر التي عرفناها مؤخرًا بعد وفاته أخبرنا بها أحد المحبين له وكانت سريرة بينه وبين أبي أنه -رحمه الله- شيّد وبنى عدّة مساجد وأعاد ترميم وصيانة أخرى وأنه حفر الآبار في كثير من قرى وهجر المملكة، وكل ذلك لم نكن نعلم عنه شيئًا؛ بل هو من عمل البر الخفي الذي هو بشارة لنا ودرسٌ نأخذه في عظم صدقة السر وخبيئة العمل الصالح.

مضى طاهرَ الأثواب لم تبق روضةٌ
غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
عليـك سـلامُ الله وقـفـًا فـإنـني
رأيت الكريم الحرَّ ليس له عمرُ

هذا شيء يسير من حياته-رحمه الله- وإلا تعجز الكلمات بل والمؤلفات عن حصر تاريخ تلك الجامعة و يحق لي أن أصفه بالجامعة التي تخرّجت منها بجملة من الدروس والمواقف وكثير من العلوم والمعارف، وشرفٌ لي أن أقول بأني تخرجت من جامعة الشيخ صالح بن عبدالله الجريش -رحمه الله-.

اللهم اغفر لأبي وارحمه
وارفع درجته في المهديين
واخلفه في عقبه في الغابرين
واغفر لنا وله يا رب العالمين
وافسح له في قبره ونور له فيه
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبي وحبيبي لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرًا منها.

كتبه
عبدالعزيز بن صالح الجريش
مساء السبت ٤/ ٨/ ١٤٤١هـ
_____________________
١- جمع رواياته الشيخ الألباني، وصححه في كتابه القيِّم: ( أحكام الجنائز ص 59 ) وعزاه إلى أبي داود، والحاكم، و الطيالسي، وأحمد ، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي، وصححه ابن القيم في أعلام الموقعين ( 1 /214 )
٢- [النساء: 85]
٣- حديث حسن(صحيح الجامع للألباني، حديث رقم 176)