في ظل التقدم الهائل  الذي نشهده في الاتصالات والمواصلات أصبح  هذا العالم  قرية صغيرة، وأصبح ما يحدث في أقصى الشرق بالصين يتأثر به من هو في أقصى الغرب الأمريكي.

وأقرب دليل ما نعيشه الآن حول العالم حيث بدأت أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-١٩) في مدينة ووهان بالمقاطعة الصينية هوبي البؤرة الاولى للفيروس وخلال أسابيع انتشر الفيروس خارج الصين ووصل إلى قارات  العالم المختلفة  وبلغ  عدد الدول المتأثرة  به – إلى وقت كتابة المقال –  ١٩٦ دولة، وعلى إثر ذلك أعلنت منظمة الصحة العالمية رسميًا أن فيروس كورونا وباءٌ عالمي.

 وإن هذه الأزمة ليست كارثةً صحية  ذات آثار بالغة الضرر  فحسب،  بل إن لها آثارًا  اقتصادية واجتماعية وسياسية  لا تقل خطورةً عن كونها كارثةً صحيةً عالمية. ولا يمكن بحالٍ التنبؤ بنسبةٍ دقيقةٍ بحجم الخسائر التي  أفرزتها وستفرزها تلك الأزمة الطاحنة  خاصةً وأنها تتفاقم خطورتها ويزداد تمددها مع دقات عقارب الساعة حول العالم .

 وليس خافيًا ذلك الأثرُ السلبي لأزمة فيروس كورونا المستجد على العديد من الصناعات، ولسوء الحظ فإن الإنتاج الغذائي أحد هذه الصناعات المتضررة  وإن حجم الأضرار الناجمة عنها  يمكن توقع شيءٍ منها بصورةٍ مبدئية و لكن ليس حصرا شاملا بعد؛ لأن الوباء مازال ينتشر وقد انتقل من الصين إلى  إيران والولايات المتحدة و أوروبا وهي البؤرة الجديدة لهذا الفيروس.

ولخطورة الأمر فإن الكثير من الدول  قد  رفعت  مستوى استعدادها  ونفذت العديد من الخطط الاحترازية التي تتفاوت  في صرامتها كتقديم التوجيهات بالبقاء في المنزل قدر الإمكان إلى فرض قيود على حركة الناس، وبعضها حظرت التجول وسنت عقوباتٍ لخرقها، إغلاق الحدود وإلغاء جميع أنواع التجمعات وتعليق رحلات الطيران، إغلاق جميع متاجر البيع ومراكز التسوق باستثناءالصيدليات والأنشطة التموينية الغذائية و توجه الكثير من الحكومات إلى تعليق معظم الأعمال غير الضرورية  في الدول والتحول إلى العمل عن بعد. ومن الآثار الاقتصادية السلبية  لهذه الأزمة عمليات تسريحٍ مؤقتٍ  للعمال.  هذه الإجراءات والآثار المترتبة عليها قد تؤثر على الإمدادات والحركة التجارية على مستوى العالم نتيجةً لتعليق أو توقف الأعمال في مصانع الإنتاج أو انعدام المواد الأولية الداخلة في الصناعة في أماكن أخرى.

وقد تزامن مع هذه الأزمة قلقٌ بشأن الأمن الغذائي فالماء والغذاء ضروريان للحياة وتقع مسؤولية استدامة الأمن الغذائي لكل بلد على الدول والمنظمات الإقليمية والدولية في تأمينه بالكلية أو تقليل آثاره. ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة فإن الأمن الغذائي يتحقق عندما يكون الغذاء متوفر لجميع الناس في كل الأوقات، مع توفر الإمكانات المادية والاجتماعية والاقتصادية للحصول على أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبي احتياجاﺗﻬم التغذوية وتناسب أذواقهم الغذائية للتمتع بحياة موفورة النشاط والصحة. وتتمثل الركائز الأربع للأمن الغذائي في : توافر الأغذية، وإمكانات الحصول عليها، واستخدامها، واستقرار الإمدادات منها.

وتسعى الدول بالتعاون مع المنظمات الدولية لأجل وضع حلول لاستدامة الغذاء من خلال توفر واستقرار  الإمدادات الغذائية لشعوبها، وهنا تختلف الدول في مواردها ودرجة استعداداتها، فهناك دول بالعالم وصلت إلى مستويات متقدمة من الاكتفاء الذاتي نتيجةً لتوفر الموارد الطبيعية لديها كالمياه والأراضي الصالحة للزراعة وغيرها، وتأتي في مقدمتهم دولة فرنسا بالإضافة إلى كندا واستراليا وروسيا وبعض الدول الأخرى بينما هناك دول تواجه تحدياتٍ ناتجةً على سبيل المثال من ضعف الموارد أو عدم استغلالها وإدارتها بطريقة سليمة، وكذلك التصحر، والتغير المناخي والأوبئة المختلفة والمتكررة في إقليم أو موقع جغرافي محدد ومعظمها بالشرق الأوسط و إفريقيا، وقد تصل درجة الاعتماد خارجيًا في بعض الدول التي تفتقر للموارد إلى 80% من احتياجاتها.

وفيما يتعلق بالأمن الغذائي في المملكة و دول الخليج، فإن هذه الدول  تدرك حجم التحدي وأهمية الأمن الغذائي الذي وضعته ضمن أولوياتها وخططها الإستراتيجية ويتم تداوله دائما خلال اجتماعات  قادة ومسؤولي دول مجلس التعاون الخليجي.

وهناك الكثير من المبادرات والجهود المبذولة في هذا الشأن في المملكه فمنها على سبيل المثال إقرار مجلس الوزراء  السعودي إستراتيجية الأمن الغذائي في المملكة، والتي تتضمن أحد عشر برنامجًا تنفيذيًا وأكثر من مائة مبادرة، وهناك عدة مبادرات من وزارة البيئة والمياه والزراعة خلال الفترة الماضية للمساهمة في تحقيق الأمن المائي والغذائي ضمن رؤية المملكة 2030، وكذلك تركيز جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)  على أبحاث إستراتيجية ذات أربعة مجالات تشمل الغذاء والماء، وأيضا اهتمام قطاع الغذاء في مشروع المستقبل الجديد (نيوم) بابتكارات تقنيات الزراعة لتعزيز الاستدامة ضمن مجالات أخرى وأخيراً  نجد الأمن الغذائي حاضراً خلال رئاسة المملكة لمجموعة دول العشرين لعام 2020.

لكن في ظل الأزمات العالمية الطارئة، هل يوجد هناك ما يبرر القلق والهلع الذي يعيشه الكثير من الناس ونراه في متاجر التجزئة الكبيرة وعلى شاشات التلفزيون من ازدحام وصفوف انتظار طويلة للشراء حول العالم بلا استثناء، فهل هناك شح في الإمدادات الغذائية والمخزون من جميع السلع أو بعضها الذي اعتادها المستهلك ؟  أم أن  لديهم معلومات تبرر هذه السلوكات في ظل تفشي فيروس كورونا المستجد وتزايد عدد حالات الإصابة به  و الوفيات  منه حول العالم، وصعوبة تحديد متى سيتم احتواؤه ؟ وعلى الرغم من حقيقة هذه المعلومة إلا أننا ندرك أن الأزمة مؤقتة وستنتهي بإذن الله.

وإن الذاكرة البشرية تحوي بين طياتها خبرات ودروسا متراكمة  استفادتها من الأزمات السابقة فلا ننسى  مثلا أزمة أسعار الغذاء عام 2008م والتي كانت ناجمة عن موجات الجفاف في أستراليا والأرجنتين، وزيادة أسعار النفط، وزيادة استخدام الحبوب الغذائية لإنتاج الوقود الحيوي وفشل السياسة التجارية مما دفع العديد من البلدان إلى فرض سياسات تصدير مختلفة لتقييد تصدير المنتجات الغذائية مثل الأرز على الرغم من أنه لم يكن هناك نقص في إمدادات الأرز . لكن بسبب سلوك الهلع والقلق، فرضت العديد من الدول ضرائب مضاعفة على صادرات الأرز أو حظرها تماماً مما أدى إلى تضاعف أسعار الأرز في الأسواق العالمية في ستة أشهر، مما تسبب في اضطرابات شديدة في تجارة الأرز وأدى إلى أزمة أسعار غذائية . وإذا شعرت الدول بالخوف والقلق هذه المرة أيضاً، فقد تضطرب تجارة المواد الغذائية والأسواق.

ولضمان استدامة الأمن الغذائي خلال الأزمات فإن  الدول تحتاج إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات الضرورية  منها :
أولًا : هناك حاجة إلى مراقبة أسعار المواد الغذائية والأسواق عن قرب وتوفير وسيلة للإبلاغ عن التجاوزات والغش المحتمل في السلع. وقيام الجهات المختلفة المعنية بهذا الشأن كجمعيات حماية المستهلك وغيرها بدورها في التوعية.

ثانيًا: النشر الشفاف للمعلومات عن المخزونات الغذائية  مما يعزز ويقوي الحكومات  في إدارتها  للأسواق الغذائية، ويمنع الناس من القلق أو الخوف من نقص الإمدادات، وتوجيه المستهلكين إلى اتخاذ قرارات عقلانية وعدم ترك الأمر للتكهنات بشأن العرض وتوفر السلع، وكذلك ضرورة توفر الأنظمة  والخطط التي تعزز  تنظيم الأسواق خلال الأزمات.

ثالثًا : تحفيز متاجر التجزئة الكبيرة لتفعيل التسوق الإلكتروني للأغذية مباشرة من المتاجر من خلال  استلام الطلبات والدفع عبر الإنترنت مع خدمات التوصيل للمنازل للحفاظ على المبيعات والأهم من ذلك ضمان تقليل التجمعات والزحام وبالنهاية تقليل فرص انتقال العدوى خلال الأوبئة خصوصًا للفئات الحساسة مثل ما نعيشه اليوم مع الوباء المنتشر.
رابعًا: الحاجة لحماية الفئات الأكثر تضررًا وضعفًا في المجتمعات والمعتمدين على المساعدات العينية التي تصرفها الحكومات خلال الأزمات.
خامسًا: من الضروري ضمان استمرار عمل سلاسل الإمدادات للسلع الغذائية والزراعية بشكل طبيعي دولياً لضمان الأمن الغذائي خلال الأزمات وحظر نشوء سوق سوداء خلال هذه الأزمة.

سادسًا: هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمار لبناء نظام غذائي أكثر مرونة، ويجب أن يأتي هذا الاستثمار من الحكومات الوطنية والمجتمع الدولي، لأن تعزيز قدرة البلدان النامية على منع أو احتواء أزمة الأمن الغذائي على المدى الطويل أو خلال الأزمات هو جهد جماعي في عالم مترابط، يمكن أن تنتقل فيه الأمراض المعدية بسهولة عبر الحدود.
وعلاوة على ذلك، فإن الحفاظ على التجارة الدولية مفتوحة مسألة في غاية الحساسية خصوصًا خلال الأزمات لكن من المهم ضمان التدفق السلس للتجارة العالمية والاستفادة الكاملة من السوق الدولية كأداة حيوية لتأمين الإمدادات عمومًا والغذائية بشكل خاص. ويجب على المؤسسات العالمية مثل منظمة التجارة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي مطالبة الدول بعدم استخدام وباء فيروس كورونا المستجد كذريعة لإصدار سياسات وقائية تجارية – دون الحاجة إليها -.
وختامًا، يمكننا القول بأن أزمة كورونا أزمة حقيقية لها تبعاتها وآثارها السلبية والخطيرة على الجوانب الصحية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الأمر الذي يوجب الحيطة والحذر وأخذ مزيد من السياسات الوقائية والعلاجية على كافة المستويات .

وكذلك ينبغي أن نضع في الاعتبار أن مجابهة هذه الأزمة ليس  مقصورًا على الحكومات فحسب بل إن هناك دورًا كبيرًا جدًا على الأفراد للنجاة من هذه الأزمة سواءٌ كان بالمجال الصحي  بسلوك العادات الصحية الوقائية السليمة واتباع التعليمات الصادرة عن الجهات الرسمية المسؤولة أو كان في المجال الاقتصادي بسلوك سياسة الترشيد والإيثار وعدم الجشع والهلع والتبذير ونشر الإشاعات إلخ .
وعلى الحكومات والمنظمات القيام بدورها  في نشر الوعي بخطورة الموقف من غير تهويل في ذلك ولا استهانة  به وكذلك  توفير  أسباب النجاة  والأمن الغذائي والاحتياجات الطبية اللازمة  والتعاون المكثف للخروج من تلك الأزمة التي نسأل الله أن يعجل بانفراجها  وأن يحفظ الجميع منها ومن كل سوء .