كنت كثيراً ما أسمع أحمد الشقيري يقول في برامجه وحساباته مصطلح الخنفشاري ولم أكن أعلم حقيقة أن لها قصة عجيبة، فقد رُوي في تاج العروس بأن المقري قد ذكر هذه الكلمة في كتابه نفح الطيب بأن رجلاً كان يدعي العلم ومعرفة كل شيء حتى لاحظ الناس كثرة أجوبته على كلمة وسؤال، فقرروا امتحانه بنحت كلمة ليس لها أصل في اللغة فسألوه عن كلمة الخنفشاري؛ فأجاب على الفور بأنها نبات ينبت في أطراف اليمن إذا أكله الإبل عقد حليبها ثم استشهد ببيت شعري من كيسه ورأسه: لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار.

ومن حينها إلى اليوم كثر الخنفشاريون الذي لا يألون جهداً في إبداء رأيهم في كل نازلة وإضفاء جهلهم في كل مسألة حتى يكاد ينطبق عليهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ” ينطق فيه الروبيضة ” وقالوا الروبيضة هو الرجل التافه يتكلم في أمور العامة! وقد قلتُ سابقاً في مقالتي في غياهب الجهل أني مؤمن أن أكثر الناس جهلاً هم أكثر الناس نقداً وكلاماً، وحتى ربما إبداء للرأي في كل موضوع لأنه فيهم آفة التعالم عقدة النقص.

وما ألهمني حقيقة لكتابة هذه المقالة هو قراءتي هذه الأيام لكتاب ” التعالم ” الذي أبدعه الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، والذي قد ذكى بعضاً من هذه القصص وتلكم النماذج في التاريخ على من ادعى سلطان العلم بهذيان الجهل، ومن ذلك ما روي عن الهروي شمس بن عطاء الذين كان من أعوان تيمورلنك فسئل يوماً هل لصلاة المغرب قصر في السفر؟ فقال نعم ورد ذلك في كتاب الفرودس لأبي الليث السمرقندي فرجعوا للكتاب فلم تفرقوا عنه ورجعوا للكتاب لم يجدوا ذلك فسألوه عن ذلك؛ فقال لكتاب السمرقندي ثلاث نسخ، وهذا الجواب في النسخة الكبرى ولم تدخل هذه النسخة البلاد! فتيقنوا من كذبه من يومها

وروى ابن حزم أنه قد كان عندهم رجل مفتٕ قليل البضاعة في العلم وكان لا يجيب عن سؤال حتى يعلم أن أحداً قبله اجاب على هذه المسألة قبله؛ فيقول الجواب كما قال الشيخ.. وذات يوم قُدر أن يختلف شيخان في سؤال فقال جوابي مثل الشيخين فقيل له إنهما فد تناقضا في الفتوى، فقال وأنا قد تناقضت مثلهما؟!

وقد يقع في شراك التعالم من يملك العلم حقاً لكن منافسة الأقران وسلطة العلم وفتنة الشهرة وحظوة النفس قد تسيقه لأن يدعي العلم في كل شيء، ومن ذلك ما روي عن مقاتل بن سليمان الذي كان مع عظيم علمه وعلو كعبه قد ابتلي بشيء من هذا، وقد روي أنه قال سلوني عما دون العرش أجيبكم فيه؛ فسألوه في أي موضع أمعاء النملة فسكت، وسألوه لما حج آدم عليه السلام من حلق رأسه؟ فسكت.. وقلتُ وهذا من أدبه وحسن خلقه أنه سكت بدلاً من أن يفتي من عنده كمن ذكرناهم آنفاً.

والطريف والجميل أن من يملكون العلم حقاً هم أكثر الناس خوفاً من إبداء علمهم فتراهم يكثرون من قول لا أدري ولا أعلم.. ومنهم الإمام الشعبي الذي قيل له ألا تستحي من كثرة ما تقول لا أدري؟ فقال كيف أستحي مما لم تستحِ منه الملائكة حين قالوا (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) وفي ربيع الأبرار للزمخشري أن الإمام مالك سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها لا أدري! وقد سمعت بنفسي مقطعاً للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يُسأل عن ثلاثة مسائل فيقول فيها لا أدري وهو مفتي المملكة كلها!

وأخيراً تأمل ما قاله الطنطاوي رحمه الله في ذكرياته ” ولعلم الطب من يحميه ويذوذ عنه، فإن انتحل رجل صفة الطبيب وفتح عيادة أو كتب وصفة لاحقوه قضائياً فعاقبوه، وكذلك من ادّعى أنه مهندس وما هو بمهندس فرسم خريطة حاكموه وجازوه، وباب الدين لا حارس له ولا بواب يدخله من يشاء ويفتي فيه من يريد! ” .