سقوط غير متوقع من جبل جليدي بالنرويج راح ضحيته ساق الطبيب المحترف أوليفر ساكس، الذي يهوى صعود الجبال، لقد كان طبيباً في عنفوان شبابه (كالثور كما يقول عن نفسه) قبل الحادث فوجد نفسه طبيباً ومريضاً بعد الإصابة.

لقد بدا له الأمر مرعباً، حينما تشعر بالخوف من عدم عودة عضو في جسدك كما كان سابقاً يتجاوز الموضوع المخاوف إلى اليأس وإلى الرعب وأشياء أخرى لا يقدر على وصفها إلا من عايشها، وكان ذلك في كتابه الذي ألفه بهذه المناسبة (أريد ساقاً أقف عليها)، لقد بدا له المرض محيراً، فما بين نوبات من الشحوب والغثيان وما بين العودة للاستفاقة كان يشعر أنه كائن مختلف؛ بدأت تعاوده أعراض غريبة نفسية وفسيولوجية من أبرزها العمى النصفي، كان يرى الأشياء مقسومة إلى نصفين، ويتهيأ له أنه فقد عضواً من جسده أو جسد من أمامك، هذا الشعور المخيف سبب له عزلة كانت أشبه بالفانوس الذي أضاء له فيما بعد أفاقاً أرحب فيما بعد، لقد تعافى أوليفر ساكس، وعاد لممارسة الطب، وإلى عالمه الخارجي الذي افتقده كثيراً، وبدأ يرصد المرضى الذي يعانون من ذات المرض العصبي، وطور أبحاثاً ودراسات كثيرة في هذا الشأن، بل وقدم نقداً إلى علم الأعصاب الحالي، وتقديم رؤية علمية لما سيكون عليه علم الأعصاب في المستقبل، وكتب الطبيب أوليفر كل أبحاثه على ذلك الجيل المشؤوم في النرويج وأكمل أبحاثه على جبل آخر في كوستاريكا في رحلات متنوعة لم تنقطع.

كان يوم أوليفر جميلاً هادئاً وهو يمارس هوايته بالصعود إلى رأس الجبل الجليدي، وهو في طريق الصعود وجد لوحة في طريقه تقول « احترس من الثور» لم يفهم المغزى من اللوحة وظن أنها مجرد دعابة من أحدهم، واصل رحلة الصعود دون اكثراث، وكانت الصخور تقابله تحت الثلوج ويتبين طريقه وخطواته بصعوبه، ولكن لياقته العالية التي اكتسبها من الرياضة وألعاب الحديد والسباحة لمسافات طويلة كانت تساعده على التسلق والحذر، ولكن تجمعاً صخرياً وجده أمامه في الأعلى قريباً من القمة سد عليه الطريق، فاقترب منه وركله برجله يستبين حقيقته، فتفاجأ بثور ضخم ينهض وينفض عن نفسه الجليد الذي اكتسى به، وحدّق ينظر إلى أوليفر نظرةً تخفي وراءها خُبثاً ومكراً وانتقاماً لم يجد إزاءه أوليفر إلا الانعطاف سريعاً بسرعة 180 درجة، لقد أطلق جسمه للمنحدر الذي هوى به بسرعة عالية، كانت رحلة العودة خالية من التفكير، لقد بدا له الأمر وكأنه حلم، كان يسمع أنفاسه برعب ولا يدري هل هي أنفاسه أم أنفاس الثور الذي لن يدعه يغادر هكذا بسلام وقد نكّد عليه قيلولته، وبدون تفسير لما حدث ويحدث وجد أوليفر نفسه متكوماً على جسده، ساقطاً أسفل المنحدر، وقد التفت ساقه بطريقة غريبة أسفل جسده، أفاق على ألو لا يطاق في ركبته، كانت الحياة في هذه اللحظة قد قررت قراراً وهو (قبل و بعد)، لقد أصبح أوليفر شخصاً آخر ليس ذاك الرياضي الذي شبه نفسه بالثور. أصبح كل ما يريده في الحياة ساقاً يقف عليها.

حينما أنهيت قراءة كتاب أوليفر عرفت معنى قوله تعالى«ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين»، لا نشعر بالنعم إلا إذا فقدناها.