قبل عشرين عاماً حضرت دورة من دورات تطوير الذات، وكان لمعدها ومقدمها أفكار لم أعتد على سماعها آنذاك في تلك الدورات.. فقد بدأ دورته بأن هناك أقوالاً ومفاهيماً خاطئة في حياتنا ومنها: مد رجلك على قد لحافك والقناعة كنز لا يفنى ومثل هذه العبارات، وأن هذه كلها مدولات خاطئة وأن ينبغي علينا ألا نرضى بقصر لحافنا وبقناعتنا عن حياتنا لننجح ونستمر في النجاح!!

ورغم مراهقتي آنذاك وعدم فهمي لكثير من دروس الحياة ومعانيها إلا أني اعترضت على كلامه بأني لولا القناعة لم أنجح فمهما سعيتَ ونجحتَ في حياتك فلن ترى أثر ذلك إن لم تملك الرضا ومعنى القناعة.. فاللحاف القصير الذي ترى الرضا فيه عيباً قد تُحرم منه غداً بقلة شكرك وعظيم سخطك!

لهذا كثيراً ما أرى أن (بعض) دورات تطوير الذات تهدم أكثر مما تبني، فنعم دورنا أن نحث على النجاح وعلى تحقيق الانجازات وعلى نيل الشهادات وعلى نفع البلاد والعباد، لكن دون أن يتعارض هذا مع الدين أو يكسر المبادئ أو يخل بالقيم.. كهذا الذي جعل الرضا بالحال من منقبة يُمدح بها المرء إلى مثلبة يُعاب صاحبها بالفشل! وكأن النجاح والسعي للسعادة يتعارض مع الرضا!

لهذا فإن ما تشيّعه بعض تلك الدورات من مثاليات أراها جانبت النجاح أكثر مما دعت إليه: بأنك أن لن تنجح إلا بعدم قناعتك لحياتك وأن تسعى لتغيير كل شيء، وبأنك لابد أن تفعل كل ما تريد وما تتمنى حتى ولو عجزت، وبأنك لابد أن تعيش لنفسك وأن لا تفكر بأحد سواك ( بالمناسبة ذكر الدكتور خالد النمر على صفحته في تويتر أن عشرات الرسائل تأتيه من أزواج انتهت حياتهم الأسرية جراء هذا المبدأ بأن زوجته تركت الاهتمام ببيتها وتربية الأولاد لتعيش لنفسها وكذا الأمر للزوج الذي ترك مسؤولياته ليعيش حياته!) بل سمعتُ بعضهم يدعو لترك الوظيفة وبدأ العمل الحر لأنك أنت من تملك نفسك وقراراتها! وكل هذه العبارات الرنانة والمثاليات الزائفة قد تنطبق وتنجح على اثنين أو ثلاثة أو حتى مئة شخص، وهم يريدون تطبيقها وتعميمها على الجميع لتصل للنجاح المزعوم في نظرياتهم!

ذُكر في سيرة الإمام النووي أنه كان يدرس في اليوم والليلة اثني عشر درساً وكانت له همة عالية في طلب العلم، فاشتهى تعلم الطب لما رأى حرص نفسه وتفوقها في طلب العلم فاشترى كتاب القانون لابن سينا وبدأ يقرأ فيها فشعر بظلمة في قلبه فلم يستطع إكمال دراسته فباعها ورجع لدروسه.. قلتُ: لو كان الإمام النووي في إحدى تلك الدورات لوصفوه بالفاشل لأنه رضي بلحافه وبدروسه السابقة ولم يكمل دراسة الطب! لأن النجاح برأيهم أنك سوبرمان قادر على كل شيء وأنك لابد أن تحقق إنجازاً خارقاً لتكون عظيماً.. ونسوا أو تناسوا بيت المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام

لهذا يا عزيزي قد تعيش حياة بسيطة تعمل فيها لآخرتك ودنياك وتحاول أن ترضي ربك في كل شيء فيها، وتعيش في بيت صغير مع أسرة صغيرة وبوظيفة متواضعة ترى العمل فيها قمة المتعة، فأنت برأيي في قمة النجاح ولو لم تحقق انجازاً خارقاً، فالنجاح برأيي كلمة لا تُقاس بمفاهيم الناس بقدر ما تُقاس بمفهوم الشخص عن نفسه ونظرته هو للنجاح.

أذكر قبل سنوات حين بدأنا مهنة التدريس قال لي أحد زملائي -بعد أن تنفس الصعداء- أمنيتي الآن: بيت وسيارة جديدة وزوجة.. فقلتُ له: أما أنا فأمنيتي أن أكون في حياتي الشخصية وفي خلوتي مع ذاتي كما أكون أمام طلابي فكما أنا قدوة في الظاهر أمامهم فارجو أنا أكون كذلك مع نفسي.. فهذا كان معنى النجاح بالنسبة لي -وما زال- في حين أن البيت والسيارة والزواج كانت أقصى معاني النجاح لهذا الشخص، فكل يبحث عن النجاح من زاويته.

وذكرتُ في كتابي محطة كتب
أن الطنطاوي قال: أن الفضيل بن عياض كان يعيش في بيت فيه غرفتين من طين وكان لا يملك فيهما إلا جلد يجلس عليه وإبريق ماء يتوضأ به وسراج يوقده في الليل ومع ذلك كان أسعد من هارون الرشيد في قصره؛ لأن الفضيل راضٕ بما لديه لا يبتغي شيئاً مما حوله والرشيد يملك ربع الأرض حينئذٕ ويطلب فوق ذلك المزيد! ثم يردف الطنطاوي رحمه الله قائلاً فالسعادة هي في كلمة واحدة هي (الرضا) فكلما قنعت سعدت وكلما زادت طلباتك نقصت سعادتك.. والغريب أن الفضيل كان قاطعاً للطريق لا يشبع من مال يسرقه وحين تاب كانت هذه الغرفتين والجلد والإبريق أبهى صور النجاح والسعادة في حياته..
وحاول بعد هذا -إن استطعت- أن تقنع مدرباً أن الفضيل بن عياض كان سعيداً!