مع تزايد الضغوط الحياتية والسرعة الهائلة في إيقاع العصر الحديث، يسقط الكثيرون فريسة للتوتر والقلق والاضطرابات النفسية وباتت الراحة النفسية هي غاية الجميع، لكن هل حقاً يوجد مايسمى بالراحة النفسية وماهي سبل الوصول إليها والحصول عليها؟، وهل ثمة ما يمكن من خلاله ضمان استمرار الشعور بالراحة النفسية والسعادة؟.. وغيرها من التساؤلات التي يجيب عليها الدكتور عزت عبد العظيم استشاري الأمراض النفسية بمستشفى الحمادي بالرياض وأستاذ الطب النفسي بالجامعات المصرية من خلال هذا الحوار.
***
* بداية نسأل ماهو مفهوم الراحة النفسية؟

– الراحة النفسية من وجهة نظر الطب النفسي تعني خلو الإنسان من الاضطراب أو المرض النفسي، أي أنه في حالة اتزان وانسجام وراحة نفسية وعقلية ولا يعاني أو يشكو من أي مشاكل نفسية أو عقلية سواء كان هو شخصياً، أو ما ينعكس على المجتمع المحيط به أو الأشخاص الذين يتعاملون معه في محيط الأسرة والأصدقاء والعمل والمجتمع عموماً، وعدم معاناة الانسان أو المحيطين به يعني الاستقرار والاتزان والراحة النفسية.

والراحة النفسية كمفهوم عام والاحساس بالاستقرار النفسي من وجهة نظر عامة الناس أمر نسبي يختلف من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، بل أنه يختلف لدى الشخص نفسه مع اختلاف ظروفه ومراحل حياته من الطفولة وحتى الشيخوخة، ولهذا فالراحة النفسية والانسجام النفسي والسعادة من الأمور النسبية لكل شخص على حدة، فهي تختلف بين الرجل والمرأة، وبين المتعلم والأمي، وبين الغني والفقير، وحتى في مراحل الطفولة والشيخوخة للشخص نفسه، فقد يجد الإنسان السعادة في طفولته والراحة النفسية في اللعب واللهو وأكل الحلوى والحب والدفء الأسري، أما في مرحلة الشيخوخة فقد يجد راحته النفسية في التقرب إلى الله والعبادة والذكر وفعل الخير.

* لكن ماهي العوامل التي تؤثر في الراحة والاستقرار النفسي للإنسان؟

– لأن الراحة النفسية للإنسان كما ذكرنا من الأمور النسبية، حيث تتدخل فيها عوامل كثيرة سواء كانت خارجية أو داخلية فإنه من الوارد أن تؤثر على حالة الاستقرار النفسي بصورة إيجابية أو سلبية فقد تجعل الإنسان في حالة استقرار واتزان وراحة نفسية أو على النقيض تجعله في حالة معاناة وتعاسة وعدم استقرار وشقاء نفسي.

* ماهو المقصود بالعوامل الخارجية؟

– هي مجموعة من المؤثرات الخارجية الاجتماعية التي تؤثر على عامة الناس في محيط البيئة أو المجتمع الصغير الذي يعيش فيه الإنسان، والتي قد تساعد على حالة الراحة والاستقرار النفسي، أو تؤدي للضغوط النفسية والمعاناة وعدم الراحة النفسية مثل الأمن والعدل والحرية والديمقراطية واحترام حقوق الانسان والاستقرار والرخاء الاقتصادي وتوافر الخدمات الأساسية من صحة وتعليم بصورة حضارية وكذلك التكافل الاجتماعي والمؤسسات الخيرية التي تشمل وتعين الطبقات البائسة والمحرومة، فكل هذه الأمور تدفع الكبت والحرمان والقهر والظلم وتعطي الإحساس بالأمان والراحة النفسية لأي إنسان داخل المجتمع، وكذلك أيضاً الترابط الاجتماعي والأسري بين الأهل والأصدقاء والجيران، حيث تسود أجواء الحب والألفة والتآخي والتفاهم والمودة ومكارم الأخلاق وكافة العواطف الإنسانية الاجتماعية والسلوكيات الحضارية الإيجابية والطيبة التي تغمر الإنسان وتشعره بالراحة والاستقرار النفسي.

* وماذا عن العوامل الداخلية؟

– هي مجموعة من العوامل التي تخص كل إنسان على حدة والتي تتحكم في مدى استقراره النفسي، وهي تختلف وتتفاوت وتحكمها أمور متنوعة منها عوامل الوراثة أو التربية في الطفولة والتي تبني صفات وملامح شخصيات كل فرد بصورة مختلفة، ومن ثم فإن الاستقرار النفسي بعد ذلك يعتمد على تأكيد الذات وبلورة ملامح وصفات الشخصية لأي إنسان، وبالتالي مدى تحقيق الطموحات والآمال ونجاح أي إنسان في تحقيق ذاته وإثبات وجوده في الحياة، والوصول لإهدافه وأمانيه، والعمل على إرضاء الذات وتحقيق معظم الرغبات المشروعة الشعورية واللاشعورية به، وكذلك مدى مرونة وسلاسة التعامل مع أفراد المجتمع من خلال منظومة القيم والمبادىء والعواطف الصادقة النبيلة وكذلك نجاح الإنسان في علاقاته الاجتماعية مع الناس وعلاقته الخاصة مع ربه ومدى رسوخ القيم والمبادئ الإيمانية والأخلاقية.

* ماهي علامات الراحة والاستقرار النفسي من وجهة النظر المتخصصة؟

– عندما يكون الإنسان في راحة واستقرار نفسي يتوافر لديه إحساس بالرضا والانسجام مع النفس ومع الآخرين، أي أنه يشعر بالصفاء مع نفسه بعيداً عن العقد النفسية والصراعات الداخلية التي تنعكس على الحالة النفسية للشخص وماتؤدي إليه من اضطرابات نفسية وسلوكية تلقي آثارها على الشخص ذاته أو تنعكس على الآخرين، مع العلم أن طبائع النفس البشرية التي فطرها الله سبحانه وتعالى يصعب عليها الوصول لحالة من الاستقرار النفسي التام، لأن الكمال لله وحده سبحانه وتعالى، ولكننا نحاول – قدر المستطاع – أن نصل لدرجة النفس المطمئنة التي يغمرها الإيمان الصادق والتي يقول الخالق سبحانه وتعالى في حقها (ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) صدق الله العظيم.

* وهل تختلف معايير الراحة النفسية من شخص لآخر؟

– إن المعايير والاختلافات الشخصية للراحة النفسية تتحكم فيها عوامل خاصة بكل شخص على حدة مثل العمر ونوع الجنس وطبيعة الشخصية وما إلى ذلك من الاختلافات النسبية، والتي تعتمد على طبيعة الشخصية ومايفعله الشخص لكي يحقق دوافعه ويصل لإشباع رغباته الغريزية أو تحقيق أهداف سامية، فمثلاً هناك نوعيات من البشر تجد الراحة النفسية والمتعة واللذة في إشباع رغبات وغرائز الأكل والجنس والتمتع بجمع الأموال أو إنجاب الأبناء وهناك نماذج أخرى من الناس تجد الراحة والسعادة في النجاح العملي والعلمي والوصول للمناصب المرموقة أو تحقيق الذات في المجتمع وربما تحقيق أهداف سامية ونبيلة للآخرين أو لخدمة المجتمع أو الإنسانية، وهناك من تجد الراحة والمتعة في عدم تحمل المسؤولية واللهو واللعب والرحلات والسهر وما إلى ذلك من تلك الأمور، وقد نجد عكس ذلك عند الشخصيات الانطوائية حيث الابتعاد عن الناس هو متعتهم وراحتهم وسعادتهم يفضلون الدخول في عالم الخيال وأحلام اليقظة، وربما تجد الشخصيات الوسواسية راحتها وسعادتها في النظام والنظافة والدقة والالتزام في أنماط مقننة ودقيقة تحكم شؤون حياتهم، وهناك نماذج أخرى كثيرة للشخصية كل يجد راحته بالطريقة التي تتلاءم وتناسب طبيعة ومتطلبات صفات هذه الشخصية لكي تعيش في راحة واستقرار مع النفس.

* ماهي أوضح أسباب الاضطراب وغياب الراحة النفسية؟

– هناك أسباب عديدة تؤدي للاضطراب وعدم الاستقرار النفسي، ويمكن تقسيمها لثلاث مجموعات أساسية:

أولاً: أسباب مهيئة وهي تساعد على حدوث الاضطراب النفسي حيث تؤدي للضغوط والصراعات والرواسب التي قد تؤدي في النهاية لحدوث المرض النفسي إذا كان الشخص لديه استعداد لذلك، فمثلاً ضغوط وصراعات الحياة والتكنولوجيا والحضارة الحديثة، حيث تزداد صراعات ومتطلبات هذه الحياة التي تمنع الهدوء وراحة البال وتشعل الصراع وما يصيب الإنسان من قلق وخوف وتوتر دائم، مع ضعف الروابط الاجتماعية والإنسانية الحقيقية، وأن هناك أيضاً مشاكل سوء التربية في الطفولة والعوامل المادية والاجتماعية والأسرية السيئة واضطراب العلاقة الزوجية وكذلك مشكلة البطالة وصراعات العمل أو مشكلة العنوسة وصعوبات الزواج وما إلى ذلك من ضغوط ومشاكل الحياة المستمرة، وهناك أيضاً العامل الوراثي وهو من أهم أسباب الاستعداد لحدوث الاضطراب النفسي لدى الشخص والذي يزيد احتمالات حدوث المرض النفسي في العائلات المهيأة وراثياً لهذا المرض.

ثانياً: الأسباب المؤدية أو المرسبة للمرض النفسي: وهي التي تؤدي بصورة مباشرة لحدوث الاضطراب النفسي مثل التعرض للصدمات والهزات الاجتماعية أو المادية أو الأسرية المباشرة والتي تزلزل الاستقرار النفسي لأي إنسان وتؤدي لحدوث المرض النفسي مثل اكتشاف خيانة شريك الحياة، الطلاق، التعرض لحادث كان سيؤدي للوفاة أو موت أحد الأقارب، وكذلك الخسارة المادية المفاجئة أو الكبيرة أو حتى مكسب مادي فجائي، وربما الفصل أو حتى التقاعد من العمل وكذلك أيضاً التعرض لمواقف امتهان وإذلال للكرامة أو الذات وما إلى ذلك من هذه الصدمات النفسية التي تجعل الإنسان ينهار ويضطرب نفسياً.

ثالثاً: الأسباب التي تؤدي لاستمرار الاضطراب والمعاناة النفسية: مثل استمرار الأسباب السابقة من مشاكل وضغوط اجتماعية أو مادية أو أسرية وصعوبة أو عدم التعامل معها بطريقة صحيحة، وكذلك أيضاً عدم علاج المشاكل والاضطرابات النفسية بصورة صحيحة مثل اللجوء للدجالين والمشعوذين لإيجاد العلاج النفسي لديهم بصورة خاطئة والتي غالباً لا تفيد.
* وماهي كيفية الوقاية من الاضطراب النفسي، وهل يمكن ذلك؟

– الوقاية دائماً خير من العلاج ولابد أن نعرف السبل المفيدة في وقايتنا من المشاكل والصراعات النفسية والتي تجعلنا في راحة نفسية بعيداً عن دوامة المرض النفسي، وسبل الوقاية تنقسم إلى قسمين بناء على الدور المطلوب:

أولاً: دور الدولة والمجتمع، وهو دور بالغ الأهمية وركيزة أساسية من ركائز الاستقرار النفسي في أي مجتمع، وينعكس على الصحة النفسية العامة لأفراده، فكما تقوم الدولة بالتطعيم ضد الأمراض المعدية للوقاية منها، فعليها العمل على وقاية الناس أيضاً من الصراعات والمشاكل النفسية، وهذا يتطلب من الدول والحكومات توفير حياة آمنة كريمة ومستقرة للناس تتوافر فيها أساسيات الحياة الكريمة مادياً واجتماعياً وإنشاء المؤسسات والهيئات الحكومية وغير الحكومية لخدمة أبنائها، والعمل على منع الكوارث، وحل مشاكل المواطنين على أسس وضوابط وعدل، وكذلك برامج التوعية والتثقيف النفسي للوقاية من الانحرافات السلوكية والنفسية كباقي التوعيات الطبية الأخرى مثل أسس التربية الصحيحة والأساليب السلوكية الإيجابية ونبذ السلوكيات والانحرافات النفسية الشاذة كالمخدرات والعنف والجريمة والجنس، مع عدم أغفال دور المجتمع الأهلي حيث إن زيادة الترابط والتآلف والتآخي بين الناس، والوقوف جنباً إلى جنب، وخصوصاً في أوقات الشدة والأزمات والضغوط الاجتماعية يمنع أي شخص من الانهيار النفسي.

* وهل ثمة مسؤولية يتحملها الإنسان لتجنب الاضطراب النفسي؟

– الدور الشخصي من أهم الأدوار في وقاية أي إنسان من الاضطراب النفسي، والذي يعتمد فيه الشخص على نفسه في تقوية وتحصين نفسيته حتى يظل بمنأى عن المرض النفسي من خلال تقوية وتنمية بعض الصفات التي تجعله يتحمل الضغوط والمشاكل النفسية دون أن يضطرب نفسياً وبالتالي يظل في راحة نفسية ومن أهم الصفات التي تقي الإنسان من الصراع النفسي هي التحلي بالجوانب الإيمانية والروحانية من خلال الرضا بالقضاء والقدر، والصبر على الشدائد، وعدم اليأس من رحمة الله، والتقوى والقناعة والاستقامة، وذكر الله، وقد ورد في ذلك آيات كثيرة، وحثنا عليها المولى عز وجل وكذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ثم حسن الخلق وسعة الأفق والسماحه والرفق والمرونة والبشاشة في التعامل مع الآخرين، والتي تزرع المودة والمحبة بين الناس، والتي تبعد الإنسان عن المشاكل والخلافات التي هي مصدر التوتر والصراع النفسي. أضف إلى ذلك القناعة والعطف والكرم والعطاء والتفاؤل، والبعد عن الحسد والغل والحقد والكراهية للناس والتحلي بقدر من الحكمة والفطنة والاعتدال في أمور الحياة كافة. وأنصح كل إنسان تعرض للضغوط النفسية باللجوء إلى الله قبل أي شيء ثم أخذ الرأي والمشورة المخلصة من الأهل أو الأصدقاء أو رجال الحكمة والدين أو حتى اللجوء للطبيب النفسي والذي قد يكون أقدر على حل المشاكل النفسية المعقدة والتي قد تؤدي للصراع وعدم الاستقرار، والمرض النفسي وبالتالي اجتياز الأزمات النفسية دون معاناة ولا يوجد ادنى حرج في الذهاب إلى الطبيب النفسي فالنفس تمرض مثلها مثل الجسد.

* ماهو آخر الكلام في الراحة النفسية؟

– آخر وأهم كلام في الراحة النفسية هو الجانب الإيماني، وتذكر الآيات القرآنية التي تنير لنا معالم الجانب النفسي للإنسان عموماً، وهي أهم من كلام الأطباء والفلاسفة، حيث يقول المولى عز وجل (ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)، وكذلك أيضاً (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وقال أيضاً (من يتق الله يجعل له مخرجاً) ويقول كذلك (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا)، وأخيراً وليس آخراً يقول أيضاً (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلاخوف عليهم ولاهم يحزنون)، ونتمنى أن نكون من النفوس المطمئنة إن شاء الله ولننعم بالراحة والسعادة في الدنيا والآخرة (ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). صدق الله العظيم.