سطر لنا الأولون كثيراً من الحقائق والخرافات المنقولة عن الموروثات التاريخية للأمم السابقة؛ أتت بعضها شفهياً والبعض الآخر كتابياً، توارثتها الأجيال كمسلمات يصعب الفكاك من تأثيرها وأثرها بل ربما مرت أجيال تؤمن بها على أنها حقائق لا تقبل الجدل، ومن تلك الأساطير ما يقع في ميادين القصص والحكايات ومنها ما يقع في مضارب الأمثال والحكم.

       ومما لا شك فيه أن تلك الأساطير ذات قيمة جوهرية تستحق التقدير والاحترام فهي بمثابة وثائق تاريخية لحال المجتمعات السالفة وتُعبر أيضاً عن المتغيرات التاريخية عبر العصور فالحقائق منها رصيد تاريخي والخرافات شواهد تعكس ثقافة المجتمعات آنذاك ونشاطاتهم المختلفة في جميع المجالات، ولعل من أشهر موروثاتهم المتداولة إلى عصرنا الحالي والمبرهنة لتنوع الثقافات المتوارثة “كل إناء بما فيه ينضح” المنقول عن ياقوت الحموي في معجم الأدباء والذي تناقلته الألسن قديماً كمضرب مثل للتعبير عن نضح المجتمعات على مر العصور بثقافاتهم المتشكلة مع مرور السنين فيعكس موروثاتهم ومعطيات بيئتهم ومذاهبهم،ولا يزال ذلك المثل يستخدم حتى وقتنا الحالي للتعبير عن ثقافة المجتمعات عامة والأفراد خاصة للإشارة الضمنية إلى ما تخفي مكنوناتهم ؛ ومن منطلق هذا المثل الأسطوري الذي واكب الزمان والمكان جاءت الفكرة المركزية لهذا المقال على صيغة سؤال: هل تعي المجتمعات المعاصرة أثر الموروثات الثقافية السالفة على عقول أبناء عصرها دون تمييز لاختلاف الزمان والمكان؟
      فكم من أساطير خيالية وأمثال سلبية ترسخت في أذهان الأجيال إلى وقتنا الراهن من منطلق الإيمان البحت بموروثات آبائهم دون إدراك بتأثيرها على الفكر الفردي والجماعي ، ومن أشهرها أسطورة “علاء الدين والمصباح السحري “التي اكتسحت ثقافة المجتمعات سواء العربية او الغربية علماً أنها حكاية لشخصية خيالية لا أصل لها ،أضيفت الى قصص الف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر ثم أعيد صياغة القصة و وإنتاجها من قبل شركات عالمية في هيئة كتب وأفلام ومسارح متنوعة وعزز وجودها ووقعها وسائل الإعلام، وربما جنح العقل لتصديقها لأن الإنسان بطبيعته يميل إلى المعجزات والقوى الخارقة للعادة ليتجاوز قيود واقعه النمطي المكبل بأفكار تقليدية لا تهديه لتحقيق طموحاته، فيهتدي للتشبث بأساطير الأولين على سبيل الامتثال لموروثات تُخلي ساحته من اللوم والمسؤولية امام هفواته، ومن الأمثال الأسطورية التي علقت بأذهاننا ومعتقداتنا المثل الشهير” من خاف سلم” وهو من أشهر الأمثال الانهزامية (من وجهة نظري) ،فعلى الرغم مما يتضمنه من معايير الأمان وتوخي الحيطة والحذر إلا أنه يعزز مفهوم الخوف غير المبرر ، وإيثار السلامة على كل شيء ، وإن تعلق هذا الشيء بالمبدأ أو القيم أو الحق ، وأصبح مبرراً مقنعاً لسلوكيات تدعو إلى الانهزامية وربما للتنازل عن الحقوق، و أيضاً : “العين بصيرة واليد قصيرة” وذلك إشارة للاستسلام والانقياد للظرف الراهن دون البحث عن بدائل الحلول ، وهلم جرا من الأقاويل المسطورة على شاكلة حكم و أمثال كانت ولا تزال تعكس ثقافة البيئة فحسب.

      ذلك لا يعني بالضرورة ان الموروثات الثقافية تقتصر على الرسائل السلبية التي تعزز الانهزامية وتقفز على العادات والقيم ؛ بل هناك جم من الحكم والأمثال الإيجابية التي تعزز قيم النجاح وعلو الهمم والإبداع والتي تضمنتها أشهر الكتب العربية مثل كتاب (الأمثال) للميداني ، وكتاب (أمثال العرب) للمفضل الضبي وغيرها والتي تتجلى فيها ما تتمتع به العقلية العربية من أنفة وكبرياء وإقدام ،وهي نضح الحالة السياسية والاقتصادية والعلمية التي مرت بها البلاد العربية في عصور التطور والإزهار ومنها على سبيل المثال ” أدب المرء خير من ذهبه” وفيه دعوة للتحلي بالأخلاق الفاضلة ، و”أعط القوس باريها” والذي يدعو للإيمان بالتخصص ، و ” لا حسب كالتواضع ولا شرف كالعلم” ، وكلها تدعو لمكارم الأخلاق الأولى بالتمجيد.

       أساطير الأولين علم بحد ذاته ، لم يكن هو مناط المقال على وجه التحديد بل أردنا الإشارة إلى أن المجتمعات المعاصرة لاتزال منغمسة في تمجيد الأساطير التي باتت السلبية منها تشكل عقبات امام نجاحات اللاحقين؛ فمثل تلك الأقاويل التي لا نظام لها تعزز مفاهيم مغلوطة وتلغي فكرة النقد الموضوعي وتطالب بقبول الواقع كما هو دون اعتراض.

   ثقافتنا .. هي رسائلنا لأجيالنا.