قوي البنية ، مفتول العضلات ، بلكمة واحدة أنهى حياة رجل ، رفع حجراً ضخماً لوحده كما تقول الروايات ، أعجبت فتاة متدينة بقوته وأمانته ونصحت والدها العجوز بأن يستأجره
” ياأبتي استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ” ، نعم هو النبي العظيم موسى عليه السلام ، من أولي العزم من الرسل ، لا أحد يشك في قوته الجسدية والروحية أيضاً (وهي الأهم) ، فهو في أصعب المواقف التي يمكن أن يواجهها الإنسان كان واثقاً من إيمانه ؛ فحينما حاصره فرعون وجنوده أمام البحر ، كانت مشاعره لا تخاطب وجدانه بل تخاطب أصحابه وأقرانه :
” كلا إن معي ربي سيهدين ” .
هذا النبي العظيم أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن الكريم حيث ورد ذكره ١٣٦ مرة في ٣٤ سورة ، ولكن المحير لأول وهله أنه رغم قوته وإيمانه الشديد ارتبطت سيرته بالخوف والهلع أحياناً ، فمنذ صغره حكم عليه بالقتل في شريعة الفرعون الأكبر لأنه ولد في السنة التي يقتل فيها المواليد الذكور ، ولكنه نجا بأمر الله ورضع من ثدي والدته التي تملكها الخوف لهذا السبب ، ورغم أنه تربى في بيت فرعون حيث القوة والبطش إلا إن ذلك لم يجعله بمأمن من الخوف الذي لازمه فترات من حياته ، وحينما بقي في مصر بعد قتل القبطي وحينما خرج منها بعد ذلك كان خائفاً يترقب، وقد لاحظ الرجل الذي استأجره في مدين ( قيل هو نبي الله شعيب ولكن ذلك موضع نفي من العلماء) لاحظ هذا القلق والخوف في عيني الشاب وقال له مطمئناً :
” لا تخف نجوت من القوم الظالمين ” ، وقد خر موسى صعقاً (رغم كل قوته ) حينما رأي الجبل يخر أمامه ثم أفاق من شدة الخوف بإيمان لا يتزعزع ولا (يخاف) ، وحينما رأي العصا تهتز كأنها جان ( والجان هي الحيَّة الضخمة ) ولى مدبراً ولم يعقب من شدة الخوف ولكن ربه جل وعلا طمأَنه منادياً له : ” خذها ولا تخف ” ، وظلت لهجة الخوف تتردد على لسانه مراراً ” وأخاف أن يقتلون ” و”أخاف أن يكذبون ” ، إنها النفس المطمئنة المؤمنة ولكنها قلقة وخائفة رغم المزايا التي تتمتع بها .
شيئ محير ومفارقة غريبة أليس كذلك ؟!
لكن المتتبع لسيرة هذا النبي العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، ومن يقرأ القرآن الكريم بتدبر يدرك أن الأمر محسومٌ مبكراً في هذه القضية الجدلية ، أليس الله سبحانه وتعالى هو القائل لنبيه ” ولتصنع على عيني ” ؟!
وأليس نبيه العظيم هو القائل ” كلا إن معي ربي سيهدين ” ؟!
إذن لن يعتمد هذا الشاب الفتي على قوته وحدها لأنه سيعتمد على قوة الله وحسن تدبيره ، فالله سبحانه وتعالى أراد لهذا النبي القوي أن لا يَكِل نفسه إلى قوته ولا يعوِّل عليها ، فقوّته ضعف أمام بشريته وأمام قوة خالقه ، من هنا كان لابد من تبيان هذه الروح البشرية في مواطن تُبدي ضعفها وحاجتها إلى قوة الله سبحانه وتعالى ، فأقوى الأقوياء هو ضعيف أمام قوة الخالق وحسن تدابيره سبحانه وتعالى ، ومشاعر الخوف تبقي النبي العظيم على مقربه من ربه يناجيه ويتضرع إليه وهذه هي الصناعة الحقيقية ، وهذا هو الداعي لمشاعر الخوف التي لم تغادر سيرة هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم .
من قال إن الخوف ضعف ؟!
الخوف قوة حينما يكون من الله وفي كنفه سبحانه وتعالى . الضعف والافتقار إلى الله هو القوة الحقيقية ، أليس كذلك ؟!