مالا يمكن قياسه لا يمكن إدارته وتحسينه” هذه لغة الجودة التي تتحدث بها المجتمعات المتقدمة ، ووفق هذه اللغة فإن اختبارات “قياس” Qiyas التي أطلقتها هيئة تقويم التعليم (سابقاً) المركز الوطني للقياس (حالياً) لم تُقرر عبثاً ، إنما جاءت امتدادا للتجارب العالمية في هذا المضمار لضمان جودة نواتج التعلم ومخرجاته من خلال الاستفادة من القدرة التحليلية والاستدلالية لقدرات الطلاب .

عشرون عاماً مضت على التوالي من بداية تلك الاختبارات في 19/6/1421هـ ؛ عقدان من الزمان كافية جداً لإعادة النظر وتقييم المرحلة الماضية ومن يتتبع المراحل العمرية لتلك النتائج بين هذين العقدين طويلة الأمد يجد أنه لا يزال هناك فجوة كبيرة بين ما يحصل عليه الطلاب في نسبة الثانوية العامة ومابين نسبة اختبارات Qiyas بشقيها (قدرات عامة /تحصيلي) بالرغم من تكرار فرص الاختبار وانتشار برامج التدريب على تلك الاختبارات وتكثيف الجهود المادية والبشرية لرعايتها، ذلك التناقض في النتائج ليس مناط هدا المقال فتلك الفجوة لا شك أنها نتاج مسببات متعددة تشترك فيها جميع عناصر العملية التعليمية ولها نصيب أيضا من اهتمام الخبراء والمختصين القائمين على معالجتها وردمها إن أمكنهم ذلك ، ولست بصدد مناقشتها ، لكن إلى حين معالجة تلك المشكلة لنا أن نتساءل ما ذنب الطالب لأن يدفع ضريبة تلك المسببات المشتركة مع عناصر أخرى بمفرده؟
هذا بالفعل ما تحمّله الطلاب منذ بداية تلك الاختبارات ، الأمر الذي جعل أداة التقويم Qiyas أشبه ما تكون بأداة الإغلاق “ترباس”؛ فكلاهما يغلق الأبواب ؛ حيث حالت تلك النتائج بين دخول الطلاب في التخصصات التي كانوا يطمحون لها ، وكانت سبباً أيضاً في عدم قبولهم في الجامعات والكليات التي تناسبهم ، وأحبطت فرحة التخرج الثانوي المكذوبة في عين المجتمع (والتي تقرع لها الطبول سنوياً احتفالاً وابتهاجاً) ، وكأننا بذلك أيضاً نحبط جميع الجهود الميدانية المبذولة في سبيل تحسين الأداء ، ونكتفي بالفرجة والوقت يمر دون أن يتوقف لانتظارنا ماذا نصنع ؟
أمّا عن العناصر الأخرى التي ساهمت في تشكيل هذه المشكلة ؛ فأعتقد أن أكثرها أشبه بالجماهير المتفرجة في مدرجات الملعب ، يرددون فقط صدى المعلقين الراصدين لهفوات الفريق المنهزم، دون الاعتراف بوجود مشكلة ، وهذا في حد ذاته أكبر مشكلة كما يقول خبير الجودة الياباني “تاييتشي اوهنو” ، فلو تأمل الجمهور الصورة عن قرب لربما اكتشفوا حقائق أخرى لعل أهمها أنه ليس بالضرورة أن يكون ذلك الخلل في قدرات اللاعبين مقارنة بأدائهم ، بل الأغلب أن الخلل في خطة تشكيلهم التكتيكية ، وتوزيعهم في الأماكن غير المناسبة لمهاراتهم وقدراتهم ، وكثيراً ما يحدث ذلك إلا أن الأخطاء تتكرر بلا مبررات؛ وهو الأمر ذاته الذي يتكرر مع الطلاب عند ظهور نتائج “قياس” حيث تُظهر تلك النتائج فرزاً دقيقاً لمدى استجابة قدراتهم العقلية للمعايير الأكثر اتساقاً مع ميولهم ومهاراتهم الحقيقية إلا أن الحكم على مستوياتهم يصدر على نتيجة الأداء العام للاختبار الذي لا يملكون إليه سبيلا، وهذا هو بيت القصيد وما أردته من هذا المقال (التركيز على كيفية استثمار تلك النتائج) بصرف النظر عن علاقتها بمحصل الثانوية العامة.

قياس الأداء من أهم أدوات الفرز والتحليل للوصول لجودة أعلى ولكن ليس دائماً نحتاج الفرز بين الأفضل والأسوأ نحن بحاجة إلى فرز مهاري يقنن عملية الاستخدام الأمثل لمعطيات البيئة وتوجيه الطاقات نحو مساراتها الملائمة ، وحتى تتحقق جودة أي عملية لا شك أنها تحتاج إلى هندرتها من جديد بعد كل فترة زمنية محددة يتم من خلالها الوقوف على جذور الخلل المسببة للمشكلة وأعتقد أنه آن الأوان أن تهندر Qiyas خطتها بما يحقق مصلحة الطلاب لاستدراك تلك الفجوة وإنقاذ غرقى تلك الاختبارات ، ولعل للجامعات والكليات دور مهم أيضاً في استثمار أبناء الوطن عن طريق قبولهم في التخصصات وفق ما أسفرت عنه البيانات التحليلية لقدراتهم العقلية دون اشتراط نسبة مئوية عامة كمبادرة تحت شعار (الجميع مقبول). واختبارات Qiyas أداة تقييم نوعية لا خلاف على أهمية استثمارها.

فهل يصبح Qiyas سلاحاً آمناً لمستقبل أبنائنا أم نعزز صورته التي ارتسمت في أذهان الأجيال ك(ترباس) أغلق في طريقهم أبواب النجاح؟