حين نزلت التوبة من الله سبحانه على الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك وكان أحدهم كعب بن مالك رضي الله عنه؛ يروي كعب نفسه أنه حين بلغ الناس خبر التوبة عنهم قام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول إليه حتى صافحه ولم يقم إليه أحد من المهاجرين قبله فقال كعب والله لا أنساها لطلحة!! ورغم بساطة فعل طلحة إلا أن عمق أثره بقي في قلب كعب حتى وفاته.. فرب كلمة وفعل بسيط أبلغ من ألف مدح وقصيدة.

وشخصياً حين أقبل الناس عليَّ يعزوني في وفاة أمي رحمها الله؛ لم أنسَ موقف ابن عمي عبد الله الذي جاءني مثل كل الناس لكنه جاء قبّل رأسي واحتضنني فشعرت وقتئذ بدفء عزائه وصدق مواساته فلم أنساها له أبدا؛ بل إني لم أعزٍّ بعد ذلك صديقاً لي أو قريباً في وفاة ذويهم إلا وقبّلت رأسه واحتضنته لعله يلقى بعض ما وجدته من صدق المواساة والسلوى لمصابهم.

فجبر الخواطر وسلوى القلوب لا يحتاج إلى تعليم ودورات بقدر ما يحتاج انتقاءً صادقاً للقول والفعل ولو كانت كلمة واحدة لقلبت بصدقها الموازين؛ بل إن الكلمات قد تنساها أنت ولا ينساها متلقيها مثلما حدث معي حين تعينتُ معلماً في المنطقة الشرقية وبلغني تعيين معلم جديد في مدرستي من القصيم فحين وجدته قلت له بعغوية إن احتجت إن شيء من بيت أو سيارة فكلمني فكلنا هنا بعيدين عن أهلنا؛ وبعد شهور طويلة قال لي لا أنسى كلمتك حين التقيتني وعرضتَ عليَّ مساعدتك فقد هونت غربتي وأسعدت قلبي حينها بشكل لا تتخيله!!

وتأمل كذلك ما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاءه متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً بجميل قصائده فقال عمر وددت لو أني أحسن الشعر كما تحسنه لرثيت أخي زيداً كما رثيت أخاك؛ فقال متمم والله يا أمير المؤمنين لو أني أخي قُتل شهيداً كأخيك ما رثيته فقال عمر ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به!! فانظر كم من المئات قد عزى عمر في أخيه وبقت هذه الكلمة البسيطة أعمقها أثراً في نفس عمر.

وأجمل بقول المتنبي الذي اختصر هذه المقالة كلها ببيته:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ** فليسعد النطق إن لم يسعد الحالُ