حين كثر العتاب على حاتم الطائي من زوجته وعشيرته لكرمه وكثرة جوده وإنفاقه رد عليهم بقوله:
يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد
وما كنت لولا ما يقولون سيداً
فلولا إهلاك نفسه وإنفاق ماله لما صار حاتم سيداً عند العرب ولما عرفته أمم وأقوام خلت وتلت ضاربة المثل فيه في الكرم؛ وكأن هذا المعنى تجسيد واقعي لبيت المتنبي حين قال ” لولا المشقة لساد الناس كلهم ”

ومثل حاتم ما حدث مع المقنع الكندي الذي لامه قومه وعايروه على كرمه حتى بلغ الفقر بكثرة إنفاقه فقال لهم معاتباً:
يُعاتِبُني في الدينِ قَومي وَإِنَّما
دُيونيَ في أَشياءَ تُكسِبُهُم حَمدا
وَإِنّي لَعَبدُ الضَيفِ ما دامَ نازِلاً
وَما شيمَةٌ لي غَيرُها تُشبهُ العَبدا

وكذلك بلغ الأحنف بن قيس من الحلم والصبر ما جعله سيداً في قومه حتى قالوا إذا غضب الأحنف غضب لأجله ألف فارس لعلمهم أنه لا يغضب إلا لأمر جلل وقد عاش بنو تميم على حلمه ٤٠ سنة!!
وبيت القصيد وعين الشاهد أن الرفعة والسؤدد لم تؤتَ لهؤلاء العظماء لكبر أمانيهم بقدر ما أتتهم لطول مشقتهم؛ وقد قيل من لم تكن له بداية محرقة لم تكن نهاية مشرقة

ومن عجيب ما روي في سيرة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن عالماً يدعى أبا سعيد دخل إلى ابن حنبل في حبسه وهو يُضرب إبان الفتنة التي أبتدعها المأمون في تبنيه رأي المعتزلة في خلق القرآن فقال: يا أبا عبد الله إنك معذور وعليك عيال وجسدك لا يقوى على هذا الضرب فأجبهم إلى ما يقولون من خلق القرآن؛ فما كان جواب ابن حنبل إلا أن قال إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت!

نعم فقد استراح أبو سعيد باختياره هذا الطريق واتباعه حكم المضطر وابتعاده عن طريق المشقة الذي اختاره ابن حنبل بالمقابل؛ حتى صبر ثمانية وعشرين شهراً في حبسه وصبر كذلك على الجلد في عهد المعتصم ثم صبر على الحبس الإجباري في منزله حتى نصر الله به الحق وأعلى به كتابه وسنته فخلدت المشقة ذكر ابن حنبل وأنست الراحة ذكر من وافق المأمون في بدعته آنذاك؛ وأخيراً تأمل ما قاله المزني عن محنة ابن حنبل: عصم الله الأمة بأبي بكر رضي الله عنه يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.