قد تلاحظ أحياناً أو ربما غالباً أن أصحاب الصفحات الساذجة في مواقع التواصل يلقون تفاعلاً وانتشاراً أكثر من ذوي الثقافة والمعرفة وكنت شخصياً اسمع مراراً هذا السؤال لماذا لا يتفاعل الناس في صفحتك وصفحات أهل الثقافة كما يتفاعلون مع تلكم الصفحات التافهة؟! فكنت أقول: إن من أسباب القبول أحياناً هو عدم القبول أو الشهرة بما تفعله؛ فلعل تلك المواضيع والمقالات مني ومن غيري إن نشرت وذاعت في حينها فتنت صاحبها فضاع أجره وكسد عمله!!

فمقياس النجاح أو القبول ليس بالشهرة وكثرة المتابعين وعدد الإعجابات أو حتى بسعة الرزق فالله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب وهنا تُبلى السرائر وتمتحن..

لهذا كان أهل السلف حريصين على إخلاصهم أكثر من حرصهم على شهرتهم وعلو شأنهم حتى أن الإمام ابن حنبل كان يتمنى أنه لم يشتهر بين الناس، وتأمل ما روي عن الإمام الماوردي الذي لم يخرج كتبه في حياته وإنما ظهرت للناس بعد مماته؛ لأنه كان يخشى أن يكون علمه لغير الله لذا أخبر أحد الثقات أن كتبه مخبأة في المكان الفلاني وأوصاه أنه إن عاين الموت وحان احتضاره فليأتي ويمسك يديه فإن قبض على يده فليتلف الكتب وإن كانت يده مبسوطة فليخرج الكتب للناس؛ فلما حانت ساعة احتضار الماوردي وجد الرجل يده مبسوطة فأخرج كتبه للناس فانتشر علمه وكُتب له القبول إلى يومنا هذا!!

وكنت قد اقتنيتُ كتاباً قبل مدة بعنوان البؤساء في عصور الإسلام لمحمود فريد تكلم فيه عن شخصيات لا يكاد يجهلها أو ينكر فضلها أحد ورغم ما بلغوه من علو كعب إلا أنهم لم يلقوا في زمانهم احتفاءً يليق بجلالة قدرهم فلم تفتح لهم الدنيا أبواب عزها كالإمام الترمذي الذي روي أنه لم يكن في خراسان بعد وفاة البخاري مثله في العلم والحفظ، ومع هذه المنزلة كلها كان يعيش في فقر وضيق حتى مكث سبعة عشر يوماً لا يأكل إلا لفتاً لأنه لا يملك غيره وكان يجري عليه في الشهر أربعة دراهم فقط!!

ومثل الترمذي كان أعلام النحو واللغة كابن مالك النحوي صاحب الألفية وسيبويه والخليل بن أحمد الذي روى عنه الذهبي أنه كان يسكن في بيت متواضع في البصرة لا يقدر على فلسين وكان طلابه يكسبون بعلمه الأموال!! ومثلهم الإمام النيسابوري الذى عانى الفقر أربعين سنة والقاضي عبد الوهاب المالكي الذي رحل من بغداد وقال لأهلها لو لوجدت عندكم رغيفين من خبز ما فارقتكم!!

وتأمل أن كثيراً من هؤلاء العلماء وغيرهم لم تنتشر كتبهم ولم يذاع صيتهم إلا بعد موتهم فلعل بؤسهم آنذاك وعدم إجلال الناس لهم هو ذاته سبب سعدهم ولعل ضيق الدنيا عليهم سبب في تخليد ذكرهم وبقاء أجرهم وقبول عملهم إلى يومنا؛ فالأمور لا تقاس بظاهرها فيوسف عليه السلام الذي شروه بثمن بخس دراهم معدودة هو نفسه الذي أصبح على خزائن الأرض.. فكم من سعادة ولدت من رحم البؤس