لعل الجميع قد قرأ كتب السيرة النبوية والتاريخ والتفسير ولكن القليل من استطاع استنباط الدرر الكامنة منها والتأملات السَّنية فيها من بين السطور .. وخذ مثلاً ما رواه الطنطاوي في كتابه مقالات في كلمات عن استناطبه في السيرة النبوية والذي يقول فيه عن نفسه أنه قرأ سيرة الرسول ألف مرة ولكنه لم ينتبه لهذا الأمر إلا متأخراً وهو أن الرسول لما أراد الهجرة إلى المدينة تأخر عن بقية أصحابه حتى يرجع الودائع إلى أصحابها؛ فأي ودائع يرجعها وجل المسلمون قد هاجروا قبله؟!

إلا أنها ودائع قريش الذين حاربوه وحاصروه في الشعب وضيقوا عليه في دينه ودعوته وأرادوا قلته وطرده من مكة؛ ومع ذلك هم أنفسهم من يودعون أموالهم وأشياءهم عنده رغم ما كان منهم من ألوان العداء؛ لعلمهم أنه لا أحد أكثر أمانة وصدقاً من نبي الله صلوات ربي وسلامه عليه.. فهل في كل كتب التاريخ رجل يبقى شريفاً أميناً في سلمه وفي حربه وفي بغضه وفي حبه وتكون أمانته مع أعدائه مثل أهله وصحبه، لكنها عظمة أخلاق نبينا محمد ﷺ.

وثمة تأمل آخر من درر السيرة وتأملاتها التي لا تنضب، وهي حين انتصر الرسول ﷺ في غزوة الأحزاب انطلق بعدها مباشرة إلى يهود بني قريظة وحاصرهم حتى استسلموا، ثم طلب اليهود بأن يحكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه؛ وكان هؤلاء اليهود قد عاهدوا الرسول ﷺ على التعايش بسلام ومعاونة المسلمين في الحروب الخارجية على المدينة، لكنهم لما رآوا المشركين قد تجمعوا على النبي ﷺ في الأحزاب نقضوا العهد وأرادوا الغدر بالنبي والمسلمين من الخلف وأعانوا المشركين على حربهم رغم كل العهود والمواثيق ورغم عدم إجلاء النبي ﷺ لهم من المدينة!! فحكم سعد عليهم بالقتل لرجالهم والسبي لأموالهم وهذا الحكم نفسه كان حكم الله سبحانه من فوق سبع سماوات.

وبالمقابل قد يتساءل البعض لماذا لم يُحكم على كفار قريش بالمثل كما تم الحكم على بني قريظة رغم أن آذاهم ومحاربتهم للمسلمين كان عظيماً جداً ومع كل ذلك عفا ﷺ عنهم عندما فتح مكة! وثمة تأملات كثيرة هنا ولكن أقربها إلى قلبي وهي أن اليهود خانوا العهد والميثاق وانتهزوا الفرصة للقضاء على المسلمين كلهم رجالهم ونسائهم في الوقت الذي كان من المفترض منهم أن يساعدوهم ويحموهم في حربهم، وأما قريش فعلى عدائهم إلا أنهم كانوا عرباً ذوي أخلاق يعز عليهم أن يغدروا أو يخونوا لهذا كان العفو أشد عليهم من القتل؛ في حين أن اليهود كانوا أهل غدر وخسة بطبعهم وكان النقض للعهود والمواثيق ديدنهم فكان القتل لهم خيراً للمسلمين من الحلم عليهم.

لذلك من تأمل السيرة بعد هذا وجد أن كثيراً من قبائل العرب قد أرتدت بعد وفاة سيدنا وحبيبنا محمد ﷺ إلا أهل مكة والطائف رغم أنهما كانا من آواخر من أسلم، فعزة المسلم ونخوة العربي جعلت قريشاً واقفة مع الحق رداً لجميل ذلك العفو من رسول الله ﷺ، وصدق المتنبي الذي قال:

وَما قَتَلَ الأحرارَ كالعَفوِ عَنهُمُ
وَمَنْ لكَ بالحُرّ الذي يحفَظُ اليَدَ