بالأمس حاولتُ أن أخدع نفسي وأني سأتعلم السباحة، وجازفتُ في السباحة حتى تجاوزتُ الحد العميق بلا قصد مني وما وجدتُ نفسي إلا وجسمي ينزل للأسفل وصراخ من حولي ينادي المدرب الذي أسرع وأنقذني وكُتب لي بعد الله عمر جديد! هذا الموقف نفسه ارجعني للوراء لأكثر من خمس وعشرين عاماً حين كنتُ طالباً في الابتدائية وأراد أهلي بتخطيطهم وبلا رغبة مني إشغال إجازتي بما يفيد فأشركوني في نادي الوحدة بمكة بقسم السباحة، وكان في ظن أهلي أن النادي سيعلمني وكان في ظن النادي أني أجيد السباحة وكان الضحية محسوبكم؟! فلما دخلتُ قاعة السباحة طلب منا المدرب التدرب على تحريك القدمين ومن ثم طلب منّا الققز في المسبح؟! فبدا الفرح على وجوه المشتركين من أترابي وكل واحد ينتظر دوره ليقفز حتى جاء دوري والمدرب ينظر إليّ فقزت ُفي الماء فانقذني مشكوراً بعد الغرق..!

وإلى وقت قريب كنتُ أسأل نفسي لماذا لم أقل لأهلي أني لا أحب السباحة وقتها ولماذا لم أخبر المدرب أني لا أجيد السباحة آنذاك؟! حتى عرفتُ الجواب متأخراً أني لم أملك يوماً (فيتامين لا) كما سماه الدكتور جون روزموند.. ذلك الفيتامين الذي نحتاج أن نتعلم متى نقوله وكيف نقوله حتى لا نقع ضحايا لحيائنا المذموم في غير موضعه وفي دلعنا المبالغ لأولادنا حين لا نرد كل أوامرهم وطلباتهم.. وفكر يا عزبزي كم من مرة ضربت يدك في صدرك وقلت ابشر وتم، وفي قلبك صوت خافت يقول يا ريتك قلتَ لا ..

قبل سنوات جاءني ولي أمر طالب للمدرسة يشكو سلوك ابنه العداوني رغم أنه – على زعمه – لم يحرمه من شيء، فقلتُ يا عزيزي ذلك هو السبب أنتَ اعطيته الرعاية لا التريية فعدم حرمانك له من شيء ضره قبل أن يفيده حتى جعله يتمادي ليأخذ كل شيء لأن سقف طلباته لم تقف على حد، فحين يُمنع ويُنهى يتمادى ويتمرد ليصل لما يريد.. فالحرمان أحياناً ينمي فيهم الإحساس بالمسؤولية والإتكال على العمل بدل الأمل فيصنع الحرمان منه رجلاً. بل من اللطائف ولعله استطراد في غير مكانه لكن الشيء بالشيء يذكر، فروي أن كثيراً من عظماء الأمة الإسلامية وعلمائها كانوا أيتاماً لم يجدوا دلال الأب وحنانه فهذا الحرمان جعل منهم رجالاً يصنعون أنفسهم كأمثال ابن حنبل والشافعي وابن حجر العسقلاني وابن الجوزي وغيرهم.

وشخصياً أعرف رجلاً بلغ من تدليل ابنه أنه صار له مصباح علاء الدين ففي كل دقيقة ثلاث أمنيات محققة ولا أدري إن كان في قاموس هذا الرجل كلمة (لا)، وإني أعلم أن هذا الرجل لم يحرم أولاده إلا من حب، وكلنا يحب ولده ولكن من الحب ما يهدم أكثر مما يبني وقد روي أن عبد الملك بن مروان كان يحب ابنه الأكبر الوليد بن عبد الملك لدرجة أنه لم يستطع إرسال ابنه للبادية ولمضارب الأعراب ليتعلم النحو وعلومه فلما أسن وصار ولي عهده كان يلحن في كلامه فقال عبد الملك حينها: أضرنا في الوليد حبنا له.. فتأمل هذه الكلمة كيف أن الحب والدلال قد يضر، فتعلم متى تقول لا وكيف تقولها حتى يصبح جسدك وعقلك متشرباً لهذا الفيتامين وحتى لا تغرق في حياتك كما غرقتُ أنا حين استحيتُ أن أقول لا.