يصعد على المنبر جاراً عباءة الهيبةِ والوقار ويبدأ يعظ الناس بمواعظِ حفظوها عن ظهر قلب يتنقل سريعاً بين فكرةِ وأخرى يستدعي آراء قديمة وجديدة ويضع لكل مسألةِ نصُ شرعي يناسبها وكأن عقله هو العقل الوحيد بهذا الكون الفسيح ، كم من خُطبة جمعة اضلت من حضرها واستمع لها وكم من خُطبةِ سكبت الزيت على نيران العنصرية والطائفية وكم من خطبةِ حرمت أشياء ليست محرمةً في أصلها لكنها عقلية الواعظ الخائف هي التي حرمت وأقامت أسوار من الخوف والظلام حول الحياة الطبيعية السوية ، الزهد والحج والصيام والسنن الرواتب وطاعة الزوج والاختلاط وعطر المرأة ورائحتها وزيها والغناء الخ القائمة مواضيع مستهلكة منذ ما يناهز الثلاثين عاماً وما تزال مستمرة مع الخطباء الجدد الذين استلموا الراية من معلميهم القُدامى ، تلك المواضيع المستهلكة نسمعها كل جمعةِ وكأن القدر كتبها علينا كوجبةِ فكرية سقيمة تناولها على مضض ، من النادر أن تجد خطيبُ يمكن تصنيفه من أهل الحداثة يتحدث عن المشتركات الإنسانية بين المجتمعات والشعوب ويقف بمنطقةِ محايدة إذا وجد نفسه بين أقوالِ فقهية اختلف فيها فقهاء المذاهب الأربعة ، ومن النادر أيضاً وجود خطيب لا يوزع صكوك الوطنية ولا يُخرج مواطنين من الوطنية لمجرد اختلافهم الفكري والمذهبي ومن النادر ويالكثرة النوادر وجود خطيب لا يستخدم المنبر كوسيلة تصفية حساباتِ فكرية وإيديولوجية ، لو عددنا النوادر لوجدناها كثيرة ومُخجلة بحق المجتمع المتدين بطبعه ، الخطبة في أصلها خطاب ثقافي كغيرها من الخطابات الثقافية ذات الأبعاد الاجتماعية والفكرية وهي موعظة أسبوعية يجتمع الناس لسماعها والاستفادة منها لكنها بفعل وعاظ الصحوة وطلابهم تحولت لروتين لولا قدسية الزمان لقال عنها القائلون إنها مُملة ومُنفره وساقيه لبذور خبيثة ، نحتاج لخطب جمعة أكثر تسامحاً وإنسانية خطب تعزز القواسم المشتركة وتُذكر الناس بوسطية الإسلام وسماحته معرجةً على آداب وقيم الإسلام وفنون التعامل مع البشر بمختلف ألوانهم وأعراقهم واديانهم ،نحتاج لخطب جمعة تناهض السلوكيات المشينة التي يرتكبها البعض عن قصد أو جهل ونحتاج لخطب تتحدث عن فنون التربية والتعامل مع الزوجة والأبناء وضرورة المحافظة على البيئة واحترام حقوق الآخرين الخ ، لم نعد بحاجة لخطيبِ يصرخ مُذكراً الناس بالمقاييس الصحيحة لحجاب المرأة أو بترديد آراء علماء قدامى في مسألة الموسيقى والغناء لسنا بحاجة لمثل تلك الخطب ولأمثالها ممن لا يسعفه الوقت فيخطب عن ركن الحج أو صوم رمضان والمدة الزمنية بين خطبته والركن الذي استدعته قريحة الخطيب شهور طوال لا يكاد يفرغ محصيها إلا وفاضت عيناه من الدموع ، نحتاج لوقفة جادة من وزارة الشؤون الإسلامية توقف الفوضى التي تشهدها جوامعنا فمن يحضر الجمعة بشر قد يفوق بعضهم خطيب الجمعة في البلاغة والمعرفة والإنسانية لكن القدر وضع ذلك على المنبر ووضع الآخر بالصف كمستمعِ لا يملك إلا تحريك رأسه يمنةً ويسره .