حين بدأتُ دراستي في الكلية شعرت وقتها بالحنين لأيام الدراسة في الثانوية فهنا كل شيء قد تبدل لا النظام نفسه ولا المكان مألوف لتعتاده فكل شيء هنا له هيبة؛ وظننتُ في لحظة خوف خالطه شيء من اليأس أني لن استطيع إكمال دراستي أبداً؛ فقلتُ لأختي بنبرة يأس حين سألتني كيف الدراسة؟ فقلت هي الصعوبة بذاتها فالمحاضرات كثيرة والمواد متشعبة ولا طاقة لي بذلك؛ فقالت لي “من تخرج قبلك أفضل منك بأيش؟! ”

كانت هذه الكلمات كفيلة بأن توقظ في قلبي شعلة أمل غابت عن نفسي في غياهب خوفها فاستعنتُ بربي وعقدتُ عزمي وشحذتُ همتي وأكملتُ دراستي وكنتُ بفضل الله وتوفيقه الأول على دفعتي في تلك السنة ذاتها؛ فأدركتُ أني الذي كنت أجهل نفسي وقدراتي وأني أنا من صعّب الأمر على نفسه وأن طريق النجاح الذي رأيته ضرباً من الخيال ما كان إلا وهماً صنعته بنفسي لنفسي..

وأذكر أني شاهدتُ قبل قرابة العشرين عاماً محاضرة لإبراهيم الفقي رحمه الله يسأل فيها الحاضرين عمن يشعر فيهم بالخجل الشديد ولا يستطيع الظهور مطلقاً أمام الناس ؛ فرفع عدد من الحضور أيديهم؛ فقال لهم بكل بساطة لو أتكم فعلا تشعرون بالخجل من الظهور لما رفعتم أيديكم؟! والشاهد أن الإنسان هو غالباً من يصنع الحواجز لنفسه ويبني لذاته الأوهام.

لهذا أعتدت أن أبدأ تدريسي لطلابي كل عام بقصة بقي بن مخلد القرطبي لأشحذ همم طلابي بهمة رجل أهان الصعاب في طريق علمه.. هذا الرجل الذي رحل من الأندلس إلى بغداد ليلقى الإمام أحمد بن حنبل ويطلب العلم على يديه وكان ابن حنبل آنذاك ممنوعاً من التدريس ولقاء الناس في محنة خلق القرآن وكان في الإقامة الجبرية في بيته؛ ولكيلا يشك أحد كان بقي يأتي إلى بيته على هيئة شحاذ يطلب المال حتى يسأله عن حديث أو حديثين! واستمر هكذا كل يوم حتى تولى المتوكل الخلافة ورفعت المحنة عن الإمام ابن حنبل.. والعجيب في قصة بقي أنه قد قطع بعض هذه الرحلة الطويلة مشياً على الأقدام! بل والأعجب ما رواه الحموي في معجم الأدباء أنّ لبقي رحلتين في طلب العلم أقام في الأولى 20 عاماً والثانية 14 عاماً؛ أي أنه أمضى 34 عاماً من حياته في رحلة علم!

وأما لماذا اخترتُ قصة بقي بن مخلد بالذات عن بقية القصص لأبدأ بها تدريس طلابي لأن الحواجز والصعوبات كلها كانت موجودة بالفعل أمام بقي بن مخلد فقد اجتمع عليه بعد المسافة والسفر الطويل والفقر ومنع ابن حنبل من التدريس ومع كل ذلك عرف نفسه وقدراته وتغلب على كل ذلك لندرك أن الصعوبات التي نحتج بها ماهي إلا أوهاماً اختلقتها عقولنا.

أخيراً تذكر أن النجاح الحقيقي يكمن في معرفة نفسك وقدراتك فيوسف عليه السلام الذي اختار السجن على الشهوات هو بنفسه الذي قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم؛ وقد كتب قديماً على باب معبد أثينا كلمة سقراط أيها الإنسان اعرف نفسك.