التعب والهم والضيق وأمراض القلب والنزاعات الأسرية وخصومات المحاكم كل هذا لا يأتي إلا من التدقيق على كل تصرف والغضب من كل عثرة وحب التسلط والانتقام للنفس؛ وقد قرأت قبل أيام عن الشيخ العراقي أمجد الزهاوي أن رجلاً جاء إليه يسبه بأبشع السب والشيخ لا يرد عليه، وبعد أيام جاء إليه الرجل نفسه ليتعذر عما بدر منه فقال له الشيخ والله يا ابني لا اتذكر أبداً ما قلته لي!! فتصور كيف عاش وتعايش على تجاهل هذه الإهانة وأراح واستراح من كبت غيضه وانتقام نفسه وضغط دمه بهذا التجاهل والتغافل.. ولهذا قيل تسعة أعشار العقل التغافل

بل من الطرائف والغرائب أن الزهاوي نفسه كان ذا ذاكرة فذة فقد كان يتذكر المسألة التي قرأها في كتبه من سنين ورغم هذا كان ينسى من حوله فقد نسي اسم الشيخ الصواف وقد كان رفيقه دائماً وحتى أنه كان ينسى أحيانا أسماء المقربين من أهله؟! وقد سئل يوماً عن سبب نسيانه الغريب فقال كنت أدعو الله أن يجنبني الغيبة ولا يمكنني منها أبدا فهأنا الٱن انسى اسمك بمجرد أن تغادر المجلس فلا استطيع أن اغتابك حتى لو أردت!!

وشخصياً قلت لزوجتي في بداية زواجنا لا يهم في مشاكلنا واختلافاتنا أن نعترف بأخطائنا ونعتذر عنها بقدر ما يهم تجاهلها وتغافلها؛ فأحياناً النقاش في المشاكل قد يزيد حدتها ويذكي نارها فالعقول محال أن تتفق دائماً مهما تقاربت العقول والأراء لكن القلوب إن مرنت على الصفاء والتسامح ألفته وعاشته فتجاهلت بذلك كل مشكلة وكأنها لم تكن

ويقول الغزالي في إحياء علوم الدين “إن أولى ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفاء وتهذيب النفس على الحلم والصبر” وكل هذا ليصلوا للسلام الداخلي مع أنفسهم؛

لهذا كان أهل السلف يهذبون نفوسهم على هذا كما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه كان ينادي غلامه مراراً فلا يجيبه فيأته بنفسه ليراه مضجعاً فيقول ما بك؟ فيقول ٱمنت عقوبتك فتكاسلت!! ومع هذا يكرمه بعتقه، وكان ليحيى بن زياد غلام سوء فقيل له لم تمسكه؟! فقال لأتعلم الحلم عليه؛ وكان الأمير معن بن زائدة يُسب وهو في منصبه ومع هذا يغدق عطاياه على من سب تهذيباً لنفسه وتعويداً عليها على رد الجهل بالعقل والعيش بسلام مع النفس قبل الآخرين