في سنة من السنين ( على قولة شيباننا ) كنت اعمل معلما لمادة الاجتماعيات في الصف الأول الثانوي !!

في بداية الفصل الدراسي لاحظت أن طالبا في احد الشعب كان يثير الفوضى ويقلل من احترام المعلم مع قصور كبير في التجاوب معي في احضار الواجبات والبحوث وأوراق العمل !!

حاولت طوال شهر كامل استصلاحه قدر الإمكان ولكن دونما فائدة أو تقدم يذكر فما كان مني إلا أرسلته لوكيل المدرسة لاتخاذ الإجراءات المناسبة معه !!

وكان من عادة الوكيل في هذه الحالة أن يرسل رسالة على جوال ولي أمر الطالب المقصر ليبقيه في الصورة !!

في اليوم التالي ..

وجدت وكيل المدرسة واقفا عند باب قاعتي ومعه ذلك الرجل العملاق ضخم الجسد عريض المنكبين وعرفني على أنه والد الطالب إياه !!

سلمت عليه وقد اختفت كل كفي في كفه ونظراته الجادة والصارمة تغني عن أي وصف !!

نظرت للطالب( الذي كان يجلس اخر الصف ) وقد بدأ تدريجيا يغوص داخل مقعده وبدأ وجهه يتلون بكل الألوان !!

أدركت أن مصيبة ستحدث ..

وبدأ صراع داخلي بين الجانب الملائكي والجانب الشيطاني في شخصيتي !!

الجانب الشيطاني يقول هذه فرصة للانتقام من الطالب الذي سعى للتقليل من قيمتي وذلك بتركه بين يدي هذا الوحش ليقطعه إربا !!

وبين جانب ملائكي يحثني على التعاطف معه !!

بادرني الرجل متسائلا عن وضع ابنه ؟

فأردت مزيدا من الوقت للتفكير فقلت له : لا أدري ماذا اقول لك عنه
قال : قل فأنا أعرف تصرفاته !!

التفتت للطالب فوجدت أن لون وجهه قد تحول للسواد الكامل ويكاد يسقط من فوق كرسيه !!

وهنا حسمت أمري وقلت لوالده : ألا ليت كل الطلاب مثل ابنك..

أدب وخلق واحترام وعلم والتزام !!

نظرت للطالب فإذا بحياة جديدة بدأت تعود اليه ولجسده المنهار وبدأ لون وجهه يعود تدريجيا ولمعة مختلفة في عينيه !!

ونظرت لأبيه : فبدأ غير مصدق لي وقال ولكن الوكيل يقول أن لديه قصور في الواجبات ؟!
قلت : كان .. ولكنه قصور مؤقت فقد احضر لي كل ماكلفته به !!

وعدت انظر للطالب فإذا بابتسامة تعلو محياه مع ضحكات مكتومة من زملائه الذين يعرفونه جيدا !!

قال لي ابوه المندهش : متأكد يا استاذ ليس لديك أي ملاحظات عليه ؟!
قلت : ابدا بل اهنئك على حسن تربيتك لولد يستحق أن تفخر به !!

خرج الرجل مني وقد علت وجهه ابتسامة بدلا من الوجوم الذي دخل به علي !!

انتهت الحصة وبدأ الطلاب في مغادرة قاعتي ماعداه فتعمدت التأخر في لملمة أوراقي حتى لم ببقى إلا انا وهو !!

تقدم الي والدموع تملأ عينيه وقبل رأسي وقال لي : والله يا أستاذ لترى مني مايسرك !!

قلت اتمنى ذلك ..

في اليوم التالي لاحظت أنه قد جلس في اول مقعد أمامي ملتزما الصمت ومنصنا للشرح باهتمام !!

وبعد أيام قليلة قدم لي كل واجباته وبحوثه المتأخرة وقد كتبت باتقان شديد !!

ومر الفصل الدراسي وهو يتقدم بثبات حتى أن المعلمين الآخرين استغربوا هذا التحول فيه ..

وفي نهاية الفصل تخرج من عندي بامتياز !!

واستمر على وضعه المتميز باقي السنتين التاليتين الذي لم أكن ادرسه فيها ولكنه كلما رأني من بعيد اقبل يجري الي ويقبل رأسي !!

تخرج من الثانوية بامتياز وكان اخر لقاء لي معه في حفل التخرج في احد القاعات حيث تعانقنا طويلا ومدحته لتغيره الإيجابي فقال ليس أنا من تغير وحده يا استاذ .. حتى والدي تغير منذ لقائك فصار يمدحني أمام الناس ويفخر بي بعد أن كان يضربني على كل صغيرة وكبيرة فكان هذا حافز اخر لي للتفوق والإبداع !!

قلت في داخلي .. حتى انا تغيرت بسببك ياولدي !!

فقد أدركت أن في داخل كل إنسان مهما بدأ سيئا جوانب إيجابية ولكنها اختفت داخله بسبب عوامل تربوية أو نفسية أو اجتماعية !!

تماما كالجواهر المدفونة داخل كومة من الرمال ولا تحتاج إلا لحاذق ينفض عنها الغبار ويستخرجها !!

وقد كنت ذلك الجواهرجي الذي الهمه الله واختاره ليكون هو من يستخرجها !!

اضاءة ..

عليك أنت أن تكون التغيير الذي تريده للعالم !!

المهاتما غاندي