من كبرى مصائبنا هذه الايام هو أن الكل أصبح وبقدرة قادر فقيهاً مفتياً عالماً بالدين وعالماً حتى بأدق تفاصيله وهو في الواقع أبعد ما يكون عن ذلك والويل لك والثبور إن حاولت فقط أن تتثبت منه عن دليله أو قرينته من قول الله سبحانه أو من قول المصطفى (ص) حتى تقبل وتسلم بصحة ما يقول خاصة حين يتعلق الأمر بأحكام الحلال والحرام والتي يشهد الواقع أنها أصبحت حقاً مُشاعاً للجميع كبر علمهم أم صغر، عظم شأنهم أم تواضع فما بالك بأمور هي دون ذلك بكثير.

وسأضرب مثالاً حياً على ذلك واجهته في أحد مجالسنا العائلية خلال عيد الأضحى حين سُئل أحد أقاربي ممن بلغوا من العلم مبلغاً لا بأس به (وهنا لا أجد أي حرج في ذكر أنه من أقاربي فهم ليسوا منزهين عن الخطأ) عن حكم عدم حلق الذقن قبل ذبح الاضحية وهل هو “سنة” أم “واجب” وهنا لن أتعرض لجوابه الذي أورده حيال ذلك الأمر فالأمر مختلف فيه بين العلماء كما نعلم ولكن الأمر الذي أود التطرق إليه وهو ما دفعني للكتابة حول هذا الموضوع، أمرٌ يُفترض به أن يكون أمر ثابت عند جميع المسلمين ولا يفترض أن يوجد أي خلاف عليه وهو يتعلق بالفرق بين “السنة” والواجب” وتعريفهما كأحكام شرعية حيث أنبرى هذا الأخ عند محاولته تعريف الحكمين وتبيان الفرق بينهما قائلاً وهذا ما صدمني وأدهشني في نفس الوقت وبكل جدية وانفعال بأن السنة “هي أمر يجب القيام به” بينما الواجب في نظره “هو أمر إلزامي يجب القيام به” وأصر على مفردة “إلزامي” لبيان الفرق بين الحكمين.

إن في هذا الموقف وهذا الاستنباط أكبر دلالة على أن لدينا فعلاً أُناس متعلمين وأصحاب شهادات ينبرون للحديث في أمور عظام مثل الأمور المتعلقة بالدين وهم لا يعلمون أبسط أحكام الدين كالفرق بين “السنة والواجب” على سبيل المثال وقد يهون الأمر لو تعلق التدخل بصغائر أمور الدين رغم أن المعلوم بالضرورة أن أمور الدين جُلّها عظام إلا أن الأدهى والأمرّ من ذلك هو حين يتعلق التدخل بأمور الحلال والحرام وهي أمور عظام إما أن تزعزع الثقة في الايمان وإما أن تعززه وتزيده رسوخاً إلا أن المراقب يرى أن الدين وأحكامه في واقعنا المؤلم الحالي فقدت الخوف والرهبة من التطرق إليها وتبيان ما هو الحق منها وما هو الباطل، ما هو الحرام منها وما هو الحلال رغم علم الكثير منّا بأن الصحابة رضي الله عنهم وهم من هم كانوا يتدافعون الفتيا ويرتعب كل واحدٍ منهم عند الخوض فيها فيقوم بإحالة المستفتي إلى غيره من الصحابة خوفاً من الوقوع في الخطأ أو القول بدون علم.

إن من تداعيات غياب هذا الخوف وهذه الرهبة في يومنا هذا ما يلاحظه الجميع من التشويه الكبير الحاصل للدين بل وحتى للمتدينين أنفسهم لذا يجب أن ندرك أهمية إستعادة وإستراجاع تعظيم أمور الدين وتعظيم شأن الافتاء فيها وأنا بهذا القول لا أشكك في دين أحد معاذ الله وإنما يجب أن يكون لنا في من سبقونا من الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح خير قدوة وخير عبرة وعظة حيث يجب أن نُعظم ما عظموه وأن نخاف ونخشى مما كانوا يخافوه ويخشوه وأن لا نتهاون في اطلاق الاحكام الشرعية تحديداً ونستسهلها وأن نتركها فقط للراسخين في العلم الذين أرتضاهم ولي الأمر وأرتضاهم العارفون بدقائق الامور وأختم مناجياً الله سبحانه بقول:

“اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا”