كان المتنبي على إبداعه في الشعر وتألقه في الوصف والحكم قوي الحفظ فقد مر يوماً على الوراقين ورأى كتاباً للأصمعي من ثلاثين صفحة فقلب أوراقها وأطال النظر فيها فقال له صاحب المكتبة يا هذا إما أن تشتري أو ترحل فلن تحفظ الكتاب بمطالعتك هذه؛ فقال له المتنبي وإن كنت قد حفظته فهل أخذ الكتاب ؟! فقال الرجل نعم فسمّع المتنبي الكتاب من أوله لٱخره ثم قام وأخذ الكتاب ورحل !!

وإن كنتَ متعجباً من حفظ المتنبي فهذا يعد أمراً بسيطاً إن ما قارنته بحفظ أهل العلم وخاصة علماء الحديث، فمثلاً أبو زرعة الرازي لم يسمع شيئاً إلا ووعاه قلبه حتى أنه كان يمر على أسواق بغداد فيضع إصبعه في أذنه مخافة أن يحفظ غناء الجاريات !! وكان الشعبي يقول ما وضعت حبراً على ورقة أو حدثني أحد بحديث إلا وحفظته !! وكان ابن تيمية ينظر للكتاب مطالعة فينقش في عقله !! وحفظ محمد بن مسلم الزهري القرٱن في ثمانين ليلة ويقول عن نفسه ما استودعت قلبي شيئاً إلا وحفظته !!

والأعجب من هؤلاء جميعاً هو الإمام البخاري فقد كان يجلس وهو غلام عند مشايخ البصرة ولا يكتب شيئاً مما يسمعه؛ فتضايق منه الطلاب وقالوا تزاحمنا في مجلسنا ولا تكتب ؟! فقال أنا أحفظ ثم سمّع لهم ما كانوا يكتبونه عن ظهر قلب بل كان بعضهم يصحح كتاباته إن أخطأ من حفظ البخاري !!

وقصته في بغداد أعجب من أن تعقل وذلك حينما أراد أهلها أن يختبروه فأتوا بعشرة أشخاص كل واحد منهم يعطيه عشرة أحاديث مقلوبة الأسانيد .. فأعاد لهم البخاري المئة حديث بسندها الصحيح وليس العجيب إعادته للأسانيد الصحيحة فقط بل إنه حفظ وأعاد لكل واحد من العشرة سند أحاديثه المقلوبة ثم عدلها كلها !!

وأخيراً أقول ما جعل هؤلاء العظماء يتمكنون من الحفظ لهذه الدرجة هو اهتمامهم ورغبتهم في العلم وهذا ما جعل عقولهم واعية له؛ ومن اللطائف والطرائف أن الإمام البخاري الذي ذكرنا عجائبه في الحفظ أراد يوماً أن يرسل من نيسابور رسائل إلى قريبات له في بخارى فحاول جاهداً تذكر أسمائهن فلم يستطع وهو الذي يتذكر ٱلاف الأسماء والأسانيد؛ لأنه حين كان مهتماً في العلم لم ينسَ شيئاً منه في حين كانت الأمور الأخرى بعيدة عن اهتمامه فنسيها