يعتقد البعض وهو في المرحلة الجامعية انه بإمكانه حل جميع مشكلات العالم من خلال ما يتعلمه أثناء دراسته أو ما يقرأه من الكتب وما يسمعه من أستاذه أثناء المحاضرات وقد يظن أن أستاذه يعرف كل شيء عن أي شيء وأنه قدوه له بينما أن خبراته لا تتعدى حفظه لنصوص نظرية قام بحفظها كي يحصل على شهادة تخوله من الحصول على وظيفة, وليس لهذا الأستاذ أي تجربة ميدانية لما يتحدث لطلابه عنه, وقد يتخرج الطالب متفوقاً ويحصل على وظيفة تناسب مع مسمى تخصصه وحين يكون داخل ميدان العمل يكتشف أنه لا يعرف شيئاً وأن ما تعلمه في جميع مراحله الدراسية في وادٍ وأن ما يواجهه الآن وادٍ آخر. وهذا بلا شك كثيراً ما يحصل للموظفين الجدد وحديثي التخرج. فيبدأ يتعلم من الصفر أبجديات العمل وطبيعته.

كذلك يتذمر كثير من الباحثين عن العمل عندما يجد شرط الخبرة في التوظيف ويعتقد أنه شرط مجحف. وهذا شيء طبيعي فمن أقل حقوق صاحب العمل أن لا يسلم زمام أمور عمله لمن لا يمتلك الخبرة. ويجعل أمواله رهينة أداء موظف مبتدئ ليست لديه الخبرة الكافية, ولو قيل لهذا الشاب سوف آخذك في رحلة جوية ويكون قائد الطائرة خريج حديث أو متدرب لرفض أن يركب الرحلة وخاف منها فالتشبيه قريب جداً حيث انه من الطبيعي انه لن يغامر بحياته ويثق بقائد الطائرة. كذلك من حق صاحب المال أن لا يغامر بماله.

الخبرة العلمية والعملية على سواء أهم بكثير مما يحصل عليه الانسان من الشهادات والألقاب الأكاديمية, كثير هم الذين جمعوا ثروات وأصبحوا من أصحاب الملايين والمليارات وتفوقوا على أساتذة جامعيين في تخصصات الاقتصاد والتمويل والمحاسبة وغيرها من التخصصات المالية. بل أن أصحاب الشهادات يتمنوا أن يحصلوا على وظائف مرموقة لدى من يمتلكون الخبرة.

الخبرة ضرورة يحرص عليها الناس الذين يحبون أن يتعلموا ويطوروا من أنفسهم وأدائهم منذ القدم, وفي كثير من القصص التاريخية نسمع أن فلان لازم فلان لطلب العلم وفي بعض القصص يقال أنه أقام عنده وأحياناً يخدمه ومن الأمثلة العربية القديمة السائدة (من علمني حرفاً صرت له عبداً). ويقال أن فلان من علمه تُثنى أمامه الركب, وهي وصف لوضعية التأدب أمام من يريد أن ينهل من علم أحد لما لديه من غزارة العلم والحكمة والمعرفة.

من حسن حظ البعض أنه يتسنى له الجلوس مع أصحاب الخبرات والتجارب وصانعي النجاح, وكبار السن الذين كان لهم تجارب مختلفة فيتعلمون منهم ما ينفعهم ويتعلمون منهم فنون التعامل مع الآخرين وأصناف الناس ومفاتيح قلوب الآخرين. حضور مجالس مثل هؤلاء والاستماع إليهم مكسب كبير لن تجده في كثير من المقاعد الدراسية, كذلك الاستماع إلى قصص النجاح يختصر عليك الكثير من الوقت ويثري معلوماتك ويزيدك إلماماً بكثير من الأمور الخفية.

وهناك بعض المرئيات والكلام حول اكتساب الخبرات الذي أعتقد أنه عين الصواب, يقال أنك إذا أردت أن تكتسب خبرات رجل لديه 60 عاماً فليس من الضروري أن تعيش 60 عام كي تكتسب خبرته لأن عمرك لن يسمح لك بذلك ولن يكفي, ولكن يمكنك اكتساب خبرة 60 عام ولكن في خمس سنوات فقط لو استطعت معرفة أهم معلومات الرجل الذي يحمل 60 عاماً من الخبرة انتقلت الخبرة اليك.

للأسف إن البعض حين يبحث عن عمل فإن همه الأول والأخير هو مقدار المرتب فقط وعدد ساعات العمل، وهناك شيء آخر أهم بكثير من المرتب فالخبرة التي سوف يحصل عليها من خلال عمله أغلى وأثمن من المرتب أما المرتب المرتفع فسوف يلاحقه ولن يهجره وسيظل يلاحقه كالظل أينما عمل متى ما توفرت لديه الخبرة والجدارة. فهي من يحدد مرتبه وقيمته في سوق العمل.

رأيت أناساً ميسوري الحال يعملون بوظائف تعتبر متدنية قياساً بما يملكون، ويرضون بمرتبات زهيدة, وكنت أستغرب من صنيعهم في البداية ثم علمت لاحقاً أنهم يبحثون عن الخبرة ويجربون أشياء لم يجربوها من قبل ويكتسبون معرفة حول عمل ما سيقومون بالاستثمار فيه لاحقاً. وإني شخصياً أعتبر هذا العمل دهاءً منهم فهم يقومون بالتعلم من وسط الميدان وليس من خلال دورات تدريبية أو مقاعد دراسية وبنفس الوقت يحصلون على مبلغ بدلاً أن يدفعوا مقابل ما يتعلموه وبنفس الوقت جنبوا أموالهم المغامرة والتهور والقرارات الغير ناضجة.

إعادة اختراع العجلة أو الدوران حول حلقة مفرغة ليس خياراً جيداً في أداء العمل والعمر قصير لا يحتمل الحماقات وإعادة تجارب لم تفلح سابقاً.
وللحصول على الخبرة مصادر عديدة أحد أهم تلك المصادر هي التجارب والقرارات الخاطئة التي أدت إلى الفشل, فالفشل ينظر إليه الشخص الإيجابي على أنه خبرة جديدة ومعلومة تفيده مستقبلاً. ويقال أن القرارات الصائبة تنتج عن الخبرة وأن الخبرة تنتج عن القرارات الخاطئة.

لذلك يجب عدم التوقف عن المحاولات حتى ولو عند الفشل مرة أو عدة مرات فبالنهاية من يسلك طريق حتما سوف يصل.

ومن أفضل مقاييس الخبرة هي الإنجازات, فحين يقال لك أن فلان له خبره سنوات في المجال الفلاني لا يكفي، بل المقياس الحقيقي هو ماذا حقق هذا الشخص في تلك الفترة من انجازات. فأحياناً نجد من عمل في وظيفة معينة لعشرين سنة ولم يحرك ساكن ولم يحقق أي شيء جديد فيظن البعض أنه خبير، بينما تجد شخص آخر عمل لمدة خمس سنوات في نفس الوظيفة واستطاع تحقيق الكثير من المخرجات في فترة زمنية وجيزة. لذلك عند التوظيف وقراءة السير الذاتية للمتقدمين على الوظائف يجب أن لا يكتفي بعدد سنوات العمل في مجال ما. بل معرفة انجازات الشخص المتقدم للوظيفة وماذا فعل وما أنتج وما هي مخرجاته خلال تلك الفترة، فتلك هي المعيار الحقيقي من وجهة نظري.