رد الداعية الإسلامي عائض القرني، على مقالا للدكتور نزار الحيدري، في مجلة الولاية الإخبارية بعنوان (أكثر من 183 سنة مفقودة من تاريخ الإسلام، أين اختفت؟).

وقال ” القرني ” في رده على ” الحيدري ” عبر حسابه الرسمي على ” فيس بوك ” : ” يقصد المدّة الفاصلة بين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب الكتب الستة وغيرهم “.
وتابع : ” وملخص مقاله : أن هناك فراغاً تاريخياً مفصولاً ومعزولاً سقط من حياة أمة الإسلام وأن هناك حلقة زمنيّة تاريخية سقطت من عالم الرواية والنقل بين رسولنا صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب كتب الحديث النبوي كالبخاري ومسلم وغيرهما ” .

ولفت إلى أنه من حق الدكتور أن يسأل ومن حقه أن يجيب بحكم دراسته للسُّنة النبوية لأربعين سنة ما بين الإعدادي والجامعي والماجستير والدكتوراه .

وجاء رد ” القرني ” كالتالي : ” السؤال الذي طرحه الكاتب لإجابته أحد احتمالين: إما أنه بالفعل حصل خطأ تاريخي وغلط منهجي تشريعي في سقوط هذه الفترة الزمنية (183) عاماً من حياة الأمة وقد غفل عنها العلماء والخلفاء والمحدّثون والفقهاء وعلماء الجرح والتعديل والنقد في العالم الإسلامي طولاً وعرضاً لأكثر من ألف عام وتواطؤا على السكوت ولم ينتبه أحد حتى جاء هذا الكاتب فاكتشفت هذا الخطأ من بين آلاف الملايين من المسلمين عبر أكثر من عشرة قرون فيكون هو الوحيد في العالم الذي يسجل له براءة اختراع لهذا الغلط الفادح الفاحش أو أن هناك جواباً آخر غفل عنه الكاتب نزار الحيدري ؟
والصحيح أن هناك جواباً علميّاً تاريخيّاً دقيقاً موثّقاً أعرضه في نقاط:
أولاً:
البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وغيرهم من المحدّثين لم يكتبوا الأحاديث النبوية من تلقاء أنفسهم، وإنما نقلوها بالسند المتصل الصحيح الثابت إليه صلى الله عليه وسلم وهو رواية ثقة عن ثقة إلى آخر السند، فمثلاً أول حديث في صحيح البخاري يقول البخاري: حدّثنا الحميدي عبدالله بن الزبير حدثنا سفيان حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقّاص الليثي يقول: سمعتُ عمر بن الخطاب على المنبر يقول: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” إنما الأعمال بالنيّات … ” الحديث ، فالحميدي شيخ البخاري معروف، مشهور، ثقة، ثبت، إمام، حجة، وحياته معروفة مدوّنة، وسفيان هو ابن عيينة شيخ الحجاز، وإمام المُحدّثين بعصره، يعرفه القاصي والداني، وشيخه يحيى بن سعيد الأنصاري، إمام، حجة، ثبت، ثقة، سيرته مدوّنة مضبوطة، وشيخه محمد بن إبراهيم التيمي، إمام، حافظ، ضابط، مشهور، وشيخه علقمة بن وقاص الليثي، تابعي جليل، عالم فاضل، ناسك، ثقة، حجة، إلى أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أحد الخلفاء الراشدين الأربعة وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، فأين الخلل في هذا السند، وأين الاضطراب وكل أحاديث البخاري على هذه الطريقة وهذا السّمو والثّقة والثّبوت؟
ثانياً:
ما الذي حمل الدولة العباسية وخلفاؤها أكثر من ثلاثين خليفة على أن تسكت على هذا المنكر العظيم وقد حصل في عهدها؛ لأنه عهد تأليف الحديث النبوي وجمع السُّنة وقد حكمت هذه الدولة من الهند شرقاً إلى مشارف الأندلس غرباً، لماذا يسكت خلفاؤها، وأمراؤها، ووزراؤها، وقادتها، وعلماؤها، ومحدّثوها، وفقهاؤها، وزهّادها، وعبّادها، لماذا الصمت منهم جميعاً وهم مئات الملايين وهم يشاهدون شخصاً اسمه البخاري ومعه مسلم والترمذي وغيرهم يجمعون حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم، وينشرونه قراءة، ورواية، ومدارسة في عواصم الإسلام، في الحجاز، والعراق، والشام، ومصر، والمغرب العربي، والهند، والسند، ويتذاكرونه على المنابر وفي المساجد والمحافل والمجامع العامة، ثم تصمت هذه الأمة كلها لأكثر من ألف عام ولا تنتبه لهذا الجرم الكبير والغلط الخطير حتى يأتي نزار الحيدري بعد عشرة قرون فيكتشف هذا الزلل ويعلن للعالم هذا الخطأ التاريخي التشريعي الذي يهدم به السُّنة النبويّة كلها ويلغي به كل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟
ثالثاً:
الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا تكلّم بأحاديثه نقلها صحابته رضوان الله عليهم وحفظوها وهم عدول ثقات أثبات، وبلّغوها لتلاميذهم من التابعين أمثال سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم، وهؤلاء بلّغوها أتباع التابعين من أمثال الزهري، وقتادة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، وهكذا حتى وصلت الرواية للبخاري ومسلم وبقية أصحاب كتب الحديث.
رابعاً:
إن البخاري ومسلم لم ينقلا عن كل رجل بل شرطهم الأمانة والثّقة والضبط والحفظ وقد ترك البخاري ومسلم آلاف الرواة من الكذّابين والوضّاعين والمتساهلين حتى من الصالحين ممن ساء حفظه أو عنده وهم أو تساهل ولهم موازين في النقد والجرح والتعديل مضبوطة مدروسة محفوظة.
خامساً:
البخاري لم يهبط على الناس فجأة من السماء ولم يأتِ من ديار العجم وحيداً شريداً طريداً، بل عاش بين العلماء وطلب علم الحديث أكثر من ثلاثين سنة ومشايخه وأصحابه وتلاميذه معروفون زكّوه جميعاً، وأثنوا عليه، ووثّقوه، وعاش في بغداد والبصرة والكوفة، وزار الحجاز والشام وامتحنه العلماء فأذعنوا لحفظه وضبطه، وشهدوا بصدقه وأمانته.
سادساً:
أقول للكاتب نزار: أن حُقْبة (183) عاماً لم تسقط من تاريخ الأمة، بل هي محفوظة وأنا في القرن الرابع عشر أعرف علماءها ومحدّثيها وفقهاءها ورواتها فكيف بغيري ممن هو أعلم مني وأقدم؟
سابعاً:
لا يلزم أن تكون هناك مخطوطات حتى ينقل منها البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم فالحفّاظ موجودون بآلاف والأمّة أميّة كانت تعتمد على الرواية المضبوطة والحفظ المحقّق وإنما حصل التأليف في عهد التابعين على وجه الندرة والحديث الواحد يحفظه عشرات، بل مئات من الصحابة والتابعين وتابعيهم من الحفّاظ الأمناء الثّقات.
ثامناً:
أقول للكاتب نزار الحيدري وثّق لنا شعر امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والأعشى، والنابغة، وطرفة بن العبد، وعنترة، ولبيد بن ربيعة من شعراء الجاهلية قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم وأخرج لنا مخطوطات على شرطك بقصائدهم وخطبهم وأخبارهم؛ ليكون الحكم واحداً.
تاسعاً:
مقال د. نزار الحيدري يلغي كل العلوم والفنون؛ لأن أكثرها نُقل لنا بالرواية وليس عن طريق المخطوطات فأين مخطوطة سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم من الفلاسفة، ومخطوطة ابقراط، وجالينوس، وغيرهما من الأطباء وأصحاب بقية العلوم والفنون؟
عاشراً:
الحقبة الزمنيّة التي ذكرها الكاتب نزار وهي (183) عاماً فيها كتب موجودة تذكر خلفاءها وعلمائها وشعرائها ومحدّثيها وكل ما حدث فيها، بل وتذكر الثّقات الصادقين من الرواة والكذّابين والضعفاء والمدلّسين وكل صنف فيهم كتب مؤلفة فأين الوهم والتفريط من المسلمين؟
الحادي عشر:
أستطيع أن أجزم أنه من بعد البخاري ومسلم وبقية أهل السُّنن والصحاح والمسانيد نشأ في الأمّة خلال ألف عام أكثر من مليون مُحدّث عالم حافظ إمام ثقة ثبت حجة في عواصم ومدن الإسلام من جاكرتا شرقاً إلى طنجة غرباً، فهل كلهم خفيت عليهم الحقيقة، وعَميت بصائرهم، ولُبِّس عليهم الشيطان حتى ضحك عليهم شخص أعجمي غريب اسمه: محمد بن إسماعيل البخاري بكتابه فحفظوه ودرّسوه وشرحوه وتناقلوه واختصروه وتعلّقوا به، بل هاموا فيه، بل عشقوه إلى حدّ الثمالة في مكة، والمدينة، والقاهرة، ودمشق، وبغداد، وصنعاء، وتونس، والرباط، والجزائر، وطرابلس، والخرطوم، وقرطبة، وغيرها من مدن العالم خلال أكثر من ألف عام؟!، فهل هذه الأمة المحمّدية المرحومة المعصومة يبتليها الله بالغباء والذهول والنسيان ويسقط عليها ميراث (183) عاماً من تاريخها العلمي والديني والتشريعي حتى يأتي كاتب لم يدرس كما درس أي عالم منهم علم الحديث النبوي ويقول: كل الأمة غلطت وأخطأت ووقعت في جهل خطير ووهم كبير؟ معاذ الله لا يكون هذا لا يكون هذا أبداً.
الثاني عشر:
خلفاء الدولة العباسيّة الذين عاش في عصرهم البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، هؤلاء الخلفاء من بيت النبوّة وكانوا يدافعون ويجاهدون أعداء الملّة فهل يصمتون لأناس من الأعاجم يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجوامع والمجامع وعلى المنابر؟! وبعض هؤلاء الخلفاء مثل المهدي قتل بعض الزنادقة على كلمة واحدة كفريّة نقلت عنه، بل إن أحد وزرائهم وهو القاسم بن عبيدالله فُهم منه تلميحاً وتلويحاً أنه يغض من مقام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وكان هذا الوزير متهماً بسوء المعتقد وقد دخل عليه غلام يتيم فقال الوزير لليتيم: اجتهد عسى أن يكون لك شأن فإن محمداً كان يتيماً وانظر كيف صار، فأهدر العلماء دم هذا الوزير وأُعدم ملوماً، مدحوراً، ملعوناً، مقتولاً، مخذولاً.
الثالث عشر:
إن البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وأبا داود، وابن ماجه، وغيرهم من أصحاب دواوين السُّنة قد زكّاهم وأثنى عليهم علماء الإسلام دون رغبة أو رهبة أو سبب من نسب أو عصبية أو قوميّة بل لوجه الله، ثم للحقيقة والتاريخ عبر ألف عام في كل بقاع الأرض فقد زكّاهم علماء المذاهب من الأحناف، والمالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة، والظاهرية من العرب، والعجم، والأمازيغ، والأكراد، والأتراك، والتركمان، والأفارقة، في كل كتاب وخطاب، وعلى المنائر والمنابر والدفاتر، فهل أجمعت هذه الأمم على ضلالة، أو أخذت على جهالة، حتى أتى الكاتب نزار الحيدري يصيح في العالم:
“أنقذوا الأمة والتاريخ والسنُّة فقد سقط منها ميراث (183) عاماً.”
الرابع عشر:
إن شيوخ البخاري وشيوخ شيوخه حتى الصحابة معروفة مواليدهم ووفياتهم ومرويّاتهم ومضبوطة ومحفوظة وماذا قيل عنهم جرحاً وتعديلاً، وكل رجل من رجال البخاري يعرف كل متأخر حياة هذا الرجل وصدقه وأمانته فكيف بأئمة الإسلام؟ والإمام البخاري لم يرو عن مجهولين أو نكرات أو فلاحين لقيهم في مزارعهم أو رعاة إبل وبقر وغنم ذهب لهم في حظائر مواشيهم ولهم احترامهم ولكنّه روى عن أئمة أعلام وعلماء كبار أمضوا حياتهم في العلم والدراية والرواية وكل واحد منهم قصة من الهمّة والحفظ والطموح والصدق والأمانة والزّهد والعبادة فأين الخلل؟
الخامس عشر:
وأنا أضرب مثلاً لرواة الحقبة الساقطة المفقودة على زعم الكاتب نزار الحيدري بقول البخاري في صحيحه والبخاري مات عام (256هـ) قال حدّثنا عبدالله بن يوسف التنيّسي شيخه وهو إمام حجة ثبت توفي عام (218هـ) قال: حدثنا مالك بن أنس وهو إمام دار الهجرة الإمام الكبير صاحب المذهب المالكي توفي عام (179هـ) قال: حدثنا نافع وهو مولى ابن عمر إمام حجة ثبت توفي عام (117هـ) قال حدّثنا عبدالله بن عمر وهو الصحابي الجليل عظيم القدر من السابقين الأولين رضي الله عنه وعن أبيه توفي عام (73هـ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين سقوط (183) عاماً؟ وغالب رواة البخاري ومسلم في هذه الحقبة نعرف سيرتهم وأخبارهم وحياتهم وما قيل عنهم؟
السادس عشر:
أخي نزار: اطمئن لم يسقط على الأمّة ولو سنة واحدة من تاريخها التشريعي بل حُفِظَ كل ذلك وضُبِط رحمةً من الله بهذه الأمّة المحمّدية المعصومة في مجموعها المرحومة بمبعث نبيّها صلى الله عليه وسلم كما قال البوصيري :
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا
من العناية ركناً غيرَ منهدمِ
لما دعا الله داعينا لنصرته
بأكرم الرُّسْلِ كنّا أكرم الأممِ
السابع عشر:
سوف يصدر لي قريباً بإذن الله تعالى كتاب:
“الانتصار لسُنة النبي المختار ﷺ ” “.