بعبارات غريبة اعتبرت الكاتبة الأردنية ” عصمت حوسه ” قضايا المنتخبات الرياضية العربية تختزل قضايا الوطن، معتبرة انتصار الفرق والمنتخبات أشبه بالانتصار في معارك المصير، وأضافت في مقالها بأن اختصار كيان بلد في نجومه الكروية كما تُختزل قضايا الشباب ورعايتهم في مجرد رعاية الأندية الكروية.

معتبرة أن هذا هو البؤس بعينه، وأنه لم يعد غريبًا أبدًا أن تصبح ” الفيفا ” أكثر شهرة من اليونسكو مثلاً، ونجوم كرة القدم أكثر شهرة من العلماء والمفكرين، وأن تغدو رعاية الفريق الوطني أهم إنجازات الحكام.

أضم صوتي إلى ما قالته مغنية البوب البريطانية ” فيكتوريا بيكهام ” زوجة اللاعب الإنجليزي لنادي مانشستر سابقًا ” ديفيد بيكهام ” عندما قالت: ” لا أعرف الكثير عن كرة القدم، لكنني أعرف معنى هدف وهو الأهم في كرة القدم “. هكذا علينا أن ننظر للعبة الكروية كما ننظر للحياة تمامًا؛ فالحياة هدف وكذلك هي كرة القدم؛ اللعب بشغف لإحراز الهدف.

مباريات كرة القدم بشكل عام المحلية والعالمية على حد سواء أصبحت تشكل مهرجانًا كرويًا بكل الأبعاد، بفضل إمكانات البث ّ الحي، حيث تطلق حماسًا منقطع النظير، وتخلق حالة غير مسبوقة من اللقاء الإنساني والشراكة الكونية.

تتحقق في المباريات إنجازات متفوقة ورائعة في جمالها، تكشف مدى القدرات الإنسانية مجسدة في التعاون بين أعضاء الفريق الواحد، أضف الى ذلك الروح الجماعية التي تشكل شرط هذا الإنجاز الإنساني المتفوق لدرجة تكاد الكرة الأرضية خلال المباريات تتحول الى كرة قدم.

أكثر من استفاد من هذه الرياضة الكروية هو ” الإعلام المرئي ” فهو وجد ضالته الذهبية في هذه الكرة، من خلال بحثها الدائب؛ للوصول إلى جماهير متزايدة الأعداد باستمرار. لذلك إن أهم محطة إعلانية على الإطلاق هي في القنوات الفضائية التي تنقل مباريات كأس العالم والمباريات الأخرى الهامة.

تلك الریاضة الكرویة الجماھیریة الكونیة غدت في العصر الحالي الملتقى البشري ” الوحید ” الذي یلقى التوافق والإجماع بلا منازع في عالم الصراعات والنزاعات والحروب؛ فھي المتنفّس الفعلي للشعوب .

المقھورة على وجه الخصوص والاندماج في الجماعة لدرجة الذوبان في ” النحن الكرویة ” . كیف لا وھي الفرصة الوحیدة للشعور بالوحدة العربیة في عصر الخلافات والتشرذم العربي المعیب.

به بالغربة والقھر والھدر والتھمیش. ولكن یبرز الخطر الحقیقي حین تحل ” النحن الكرویة ” محل ” النحن تشكل المباریات لحظات استعادة للذات، في تجربة جماعیة فریدة تُدخل التوازن الى النفوس المعذّبة بالغربة الوطنیة ” ، أو بتعبیر أدق حین تُختزل الھویة الوطنیة في النحن الكرویة فقط، ویمسي الانتصار الكروي ھو الأمل الوحید مقابل الھزائم العربیة العدیدة المتتالیة.

التوجه الحالي في الریاضة الكرویة ھو ” البزنسة ” – من البزنس – واستغلالھا لأغراض السوق ومكاسبھا؛ فتحولت كرة القدم الى مشروع تجاري ذي رقم عال یكاد یُنافس تجارة النفط. وأمست صناعة تدر مئات بلایین الدولارات، الأمر الذي یتجاوز المیزانیة الوطنیة لبعض البلدان حتى المتقدمة تكنولوجیاً، وذلك من خلال أسعار الدخول، والبث، والاشتراكات، والثیاب والأدوات، والإعلانات.

تدر ّأسھمھا في بورصة الأرباح الطائلة، ناھیك عن أسعار نجوم الكرة التي ما انفكت كما تحولت كرة القدم كذلك الى صناعة نوادي؛ لاختیار اللاعبین وتدریبھم وصناعة النجوم من بینھم، كلھا أصبحت بزنسًا تتصاعد كي تتجاوز میزانیات جامعات عریقة، بعضھم یُطلق علیھم لقب ” أغلى لاعب في العالم ” .

بات لتلك الریاضة ثقافتھا الخاصة؛ فبالإضافة إلى المدربین والمدیرین، ھناك المذیعین والمعلّقین والمحللین والنّقاد، وتتغذّى ھذه الثقافة بتعابیر مثل ” ھدف بتوقیع ” فلان من النجوم.

وكأننا بصدد استبدال توقیع ” القدم ” بتوقیع ” القلم ” الذي ألفناه في الحدیث عن روائع الفكر والأدب. في ھذا الواقع المؤسف لم نعد بصدد متعة اللعب وحماسه وحدھما، بل بصدد إبدال قضایا الوجود والحدود في آمالھا وإحباطاتھا، وكذلك قضایا الانتماء والھویة وإحلال المباریات ونجومھا ومسمیاتھا محلھا. غدت كرة القدم ومباریاتھا على الصعید الوطني والعربي والعالمي مجالاً لتجسید البدیل للنضالات الوطنیة والمطلبیة.

ما سبق یفسر لنا ظواھر الشغب والعنف التي تنفجر في بعض الملاعب سواء قبل المباراة أو بعدھا في الواقع، والآن في العالم الافتراضي بالتلاسن الفیسبوكي وغیره، فذلك یشیر إلى إزاحة الإحباطات الوجودیة من مواقعھا الأصلیة إلى مواقع الملاعب والمباریات، خاصة بعد أن تم إخصاء قوى القتال والمجابھة في قضایا المعاش والمصیر بمختلف ألوان القمع والمنع.

عدا ذلك ماذا تعني ثورات الغضب العارمة لخسارة الفریق الوطني وما یرافقھا من عنف وتخریب؟؟ وما معنى استقبال مدرب الفریق وأعضائه بعد الفوز وكأنھم أبطال التحریر؟؟ وماذا تعني الاحتفالات وإزعاج الآخرین لدرجة الاستفزاز لفریق وطني أو حتى عالمي؟؟ قضایا الفریق الریاضي الوطني تختزل قضایا الوطن لا بل تطمسھا، فیتحول انتصاره الى ما یشبه الانتصار في معارك المصیر، واختصار كیان بلد في نجومه الكرویة كما تُختزل قضایا الشباب ورعایتھم في مجرد رعایة الأندیة الكرویة. ھذا ھو البؤس بعینه. فلم یعد غريبًا أبدًا أن تصبح ” الفیفا ” أكثر شھرة من الیونسكو مثلاً، ونجوم كرة القدم أكثر شھرة من العلماء والمفكرین، وأن تغدو رعایة الفریق الوطني أھم إنجازات الحاكم.

في الختام كلنا أمل أن ننتصر ” عربيًا ” بالكرة بالحد الأدنى على العالم المتوحش الذي سلبنا كل شيء حتى كرامتنا، فلا یمكننا الانتصار في المیدان سوى بالكرة على الرغم أن العرب الى ھذا الیوم لم یسجلوا أي انتصاراً كرویًت للأسف الشدید، یبدو أننا اعتدنا على الھزائم !! أیوجد بؤسًا أكثر من ھذا البؤس الكروي؟؟!!