أنه أحد الأسئلة المثيرة للجدل, سؤال فلسفي قديم, قدم الفلسفة نفسها: هل اخترع الإنسان الرياضيات أم أكتشفها؟

ما الفرق بين الاختراع والاكتشاف؟ سؤال مبدئي نحتاج له لكي نغوص في أعماق التاريخ ونجدد ذكريات البشر مع الأرقام والأشكال الهندسية, ورحلة الإنسان المضنية في طريقه الوعر نحو الحضارة.

الرياضيات هي لغة العلم, ووسيلة الإنسان لتفسير قوانين الطبيعة والكشف عن أسرار الكون اللامتناهي. فكل ما حققه الإنسان في حقل العلم, يعود الفضل فيه لمفاهيم الرياضيات, فقد استعان بها في الزراعة وفي حساب الأيام والفصول, وهي وسيلته الضرورية في التجارة وبدونها ستتوقف العجلة الاقتصادية عن الدوران.

عن طريق المفاهيم الرياضية صنعت حضارة بابل وأقام الفراعنة بنيان هرم خوفو الشامخ بما يخفيه داخله من هندسة معمارية غاية في الدقة والإتقان, ويطرح أرسطو قوانينه الخاطئة حول سقوط الاجسام, ليأتي غاليليو غاليلي ليصحح خطأ أرسطو قائلا بأن الأجسام تسقط على الأرض بنفس التسارع بغض النظر عن أوزانها, ويدشن مرحلة جديدة في علم الفيزياء والفلك يعتقد الكثيرون بأنها الثورة الحقيقية في المناهج العلمية وطبعا كانت الرياضيات صاحبة الفضل الأول فقد كانت هي اللغة المجردة التي استعان بها غاليليو غاليلي ليحقق الفتح التنظيري الذي قلب الموازين العلمية رأسا على عقب.

تستمر الرياضيات وفي كل مجالات الحياة تقدم العون للإنسان بداية من متتالية فيبوناتشي إلى تمكن الإنسان من إنزال مركبة فضائية فوق سطح القمر حتى عصر ثورة الاتصالات اللاسلكية, فهي السر الكامن وراء كل مظهر من مظاهر التقدم البشري في كل مجال علمي, فقد مهدت الطريق أمام الإنسان وأزاحت العراقيل التي تعيق تقدمه نحو الأمام, مانحة إياه كل التفسيرات والبراهين التي تميط اللثام عن غموض الطبيعة, فلم تعد الطبيعة تخبئ السحر في أحشائها, بل صارت الخادم المطيع للإنسان تمنحه كل مواردها وكنوزها, فالإنسان لم يعد مفتونا بسحرها ولم يعد يقف على أطلالها في حالة تأمل ليجد جوابا شافيا يزيح عنه قلقه الوجودي الثقيل.

منحت الرياضيات الإنسان المفتاح السحري لما استغلق أمامه حتى تحولت الطبيعة الساحرة المليئة بالأسرار إلى مستودع لتأمين مواد الخام لكل مصنوعات الإنسان الحديث, فأعطته القوة ليسيطر على الطبيعة لا أن تسيطر هي عليه.

فهل هذه القوانين والأرقام والمفاهيم والأشكال الهندسية وكل هذه اللغة الكونية المجردة موجودة من الأساس في جوهر الطبيعة حتى قدم الإنسان واكتشفها كما يكتشف قارة نائية غير مأهولة بالسكان, أم أن دماغ الإنسان اخترعها لتكون وسيلة تساعده على فهم قوانين الطبيعة كما اخترع الفأس والمحراث.

يعتقد كثير من العلماء أن مفاهيم الرياضيات تجري في جوهر الكون كما يجري الدم في جسم الإنسان ويعتقد آخرون بأنها ليست إلا اختراعا بشريا ورموزا وأشكالا هندسية تحاكي نظام الطبيعة.

ويعتقد الرياضيون بأن الرياضيات لها قيمة جمالية في قوة التجريد التي تمتلكها وهناك من تطرف في افتتانه بالرياضيات مثل برتراند راسل الذي يعتقد بأن الرياضيات لا تمتلك الحقيقة فحسب وإنما الجمال الأسمى. وسواء كانت الرياضيات من مكتشفات الإنسان أم من مخترعاته فإنها ستظل قاصرة عن الإحاطة بكل أسرار الكون الذي يدل على عظمة الخالق عز وجل.