امتزج العلم في قرون سابقة بغيره من المجالات المختلفة عنه في جوهره, رغم اتفاقها مع العلم في الأهداف والغايات النهائية وهي اقتحام الطبيعة والكشف عن أسرارها ومكنوناتها الدفينة, لكن مناهجها في البحث والتقصي كانت مختلفة تمام الاختلاف عن العلم ومنهجه.

وفي الوقت الراهن استطاع العلم أن ينفرد بمجاله ومنهجه بعد أن تحددت قسماته وخصائصه, فكلما تقدم العلم انسحب كل ما هو لا علمي, واستطاع العلم أن يصنع لنفسه الحصون المنيعة ضد كل ما تعارض مع موضوعيته ودقته وثبات صدق قضاياه.

تولع بعض المختصين في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية واللغويات بما حققه العلم من إنجازات جعلته يتربع على عرش السيادة في عصرنا الحديث بعدما حقق سمعة طيبة نأت به عن ميادين الخصام والشقاق, فرغبوا في محاكاة أهل العلم الطبيعي واستعارة مناهجهم وأساليبهم في البحث, لتحقيق غايتهم المنشودة وهي الانضواء تحت راية العلم والحصول على شرف العلمية, ولكن العلم في الوقت الراهن يختلف عن العلم في القرن التاسع عشر, فالعلم الأن استطاع أن يؤطر نفسه ويحمي عالمه من أي أفكار أو نظريات تتعارض مع منهجه الدقيق والمنضبط.

فمنذ القرن التاسع عشر ترسخ الاعتقاد بأن العلم هو السبيل الأوحد نحو عالم الحقيقة مما جعل المؤرخ يحاول تطبيق المنهج العلمي على الأحداث التاريخية رغبة في التحكم بأحداث التاريخ أو التنبؤ بها, وفي عالم اللغة والأدب زاد الاهتمام لوضع الظاهرة اللغوية في ميزان العلم بغية الحصول على قوانين عامة تضبط مظاهرها, وفي سبيل محاكاة مناهج البحث العلمي, أسس اللغويون الفرضيات وصنعوا النظريات, ولكن نظرياتهم هذه لم تمكنهم من خلق توقعات معينة يمكن إثباتها أو دحضها بطريقة تجريبية كما هو حال النظريات العلمية.

وتعقد الظواهر اللغوية واستحالة إجراء التجارب عليها, أدى إلى تعذر الوصول إلى قوانين لغوية عامة يتفق عليها الجميع نظرا لعدم دقة المقاييس اللغوية, ولأن التجربة تقوم على مبادئ أساسية أهمها التحديد والضبط والتحكم من قبل الباحث.

ولو أخذنا ظاهرة التطور اللغوي التي تعد أهم الظواهر اللغوية, وقضايا التطور اللغوية كانت ولم تزل من أهم القضايا التي أخذت حيزا كبيرا من اهتمام اللغويين من قديم الزمن, فهي تعد من الظواهر التي يستحيل التنبؤ باتجاه سيرها أو التحكم بها في سبيل دراستها وتحديد القوانين العامة التي تضبطها.