في القرن الواحد والعشرين, في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في لندن 2012, عاشت لندن لحظات خالدة لا تنسى, وهي تستحضر ذكريات تراثها القديم المطمور بين دفات الكتب وأوراق الأدب القديمة.

ففي حفل الافتتاح الذي كلف 42 مليون دولارا, أخذنا المنظمون في رحلة عبر آلة الزمن راجعين بنا نحو قرون قديمة عاشتها الأمة الإنجليزية بحلوها ومرها, لم يغادروا صغيرة أو كبيرة في تاريخهم إلا وعرضوها لنا عبر شريط الذكريات, على مرأى ومسمع من ملايين البشر حول العالم, فمثل هذه المناسبات الرياضية تعد من أسرع الطرق لعرض ثقافات وموروثات الشعوب.

حمل الافتتاح شعار (Inspire Generation) ألهم جيلا, حاملا معه إيعازا مبطنا للأجيال, أن الإلهام لا يكون إلا عبر الارتباط الوثيق بالموروثات, لذا أخذ التراث الإنجليزي الحيز الأكبر في الافتتاحية وتلونت تلك الليلة الصيفية بألوان التراث الإنجليزي بما يحمله من صراع بين رجال الصناعة والفلاحين في عصر دلفت عبره بريطانيا بوابة الحداثة.

تضمن الافتتاح لوحة معبرة وتقليدية للريف البريطاني والحياة الثقافية والاجتماعية للمجتمع الإنجليزي صورت لنا جانبا معتما من حياة الفقراء والمهمشين في العصر الفكتوري كما رأيناها في أدب تشارلز ديكنز وغيره من رموز الأدب الإنجليزي.

نقلت الافتتاحية دعوة إلى تحسين وضع العمال المزري كما رأيناها في عوالم الأدب الإنجليزي بملابسهم الرثة ووجوههم الكالحة المتعبة في مدن وأزقة معتمة تحاصرها المداخن في زمن دخول الآلة البخارية إلى المجتمع مهددة أفراده بالعطالة الأبدية في زمن الثورة الصناعية وهيمنة أصحاب رؤوس الأموال.

حياة الملاجئ والأرياف وسوء المعاملة التي يقاسيها اليتامى في دور الأيتام التي عشناها في كتب التراث الإنجليزي رأيناها في حفل الافتتاح الرائع فكرة ومضمونا, لزرع الأمل والتفاؤل في نفوس الأجيال في لمسة إبداعية توحي للناظر بأنه ما زال في هذه الحياة متسع لأمال عظيمة ستولد من رحم الأحزان والانكسارات.

انغمس المشاهدون في أعمق أعماق التراث الإنجليزي في رحلة مكوكية عبر القرون من عصر وليام شكسبير مرورا بعصر النهضة والعصر الفكتوري ومن بعده العصر الجورجي ولم يخلو الحفل من مشاهد الرعب والخوف والأشباح التي قرأناها في كتب هاري بوتر وعشنا حالة الترقب والغموض مع شخصية جيمس بوند التي كانت حاضرة في الافتتاح.

كان الختام مع الجيل الجديد وهو المستهدف الحقيقي من هذه الافتتاحية الفخمة, حيث حضر الشباب في لوحة موسيقية راقصة مع موسيقى الروك وهم يرتدون أزياء القرن الواحد والعشرين, في مشهد يعكس روح الحياة الغربية الحديثة بكل تجلياتها.

رسالة المنظمين واضحة, وخلالها يتضح مدى اعتزاز الشعب البريطاني بموروثاته وآدابه القديمة, لذلك هم اغتنموا الفرصة في مناسبة ينتظرها كل سكان العالم ليقولوا بصوت عال: هذه هي حضارتنا.